على أن هذا الذي تم لقالون لا يخرم القاعدة التي رأينا نافعا يأخذ بها، إذ كان عامة أهل العلم في زمنه يسلكون ذات الطريقة، لعدم قدرة المشايخ على القراءة لكل قارئ على حدة، بل أخذوا بطريقة المحدثين والفقهاء، الذين كانوا يستمعون إلى ما يقرأ أمامهم من الآثار في مؤلفاتهم، ثم يجيزون بها القارئ والسامع، إذا استثنينا ما ذكرناه من خصوصية اعتماد القراء على قراءة القارئ نفسه على الشيخ في أثناء العرض ـ، وقد روى الحافظ أبو عمر بن عبد البر بسنده عن ابن القاسم وابن وهب كلاهما عن مالك أنه قيل له: "أرأيت ما عرضنا عليك، أنقول فيه: حدثنا؟؟ قال: نعم، يقول الرجل إذا قرأ على الرجل أقرأني فلان، وانما قرأ عليه"(١).
وقال مالك أيضا حين سأله تلميذه وتلميذ نافع: إسماعيل بن أبي أويس المدني عن صحة التحمل بمثل ذلك:
"ألست أنت قرأت على نافع؟ وتقول: أقرأني نافع"(٢).
فهذا كله يدل على أن طريقة التحمل عن القراء، إنما كانت في جملتها تعتمد العرض بعد أن يكون الطالب قد سمع قراءة الشيخ منه، أو من غيره بمحضره، وذلك ما يشهد له واقع الحال بالنظر إلى وفرة من كان ينتظر الدور في كل صباح ليأخذ بحظه من الشيخ، إذ لا يستطيع بغير ذلك أن يأخذ على كل قارئ كما لا يسوغ للقارئ أن يقول: هذه قراءة فلان إذا لم يكن قد أخذها بمحضره، ثم زكاها بعرضها عليه، وإقراره له عليها، ليكون ذلك بمثابة الشهادة له بإتقانها، وبه تحصل له الأهلية لروايتها ونسبة القراءة بها إليه.

(١) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ٢/١٧٨.
(٢) - نفس المصدر والصفحة.

قال الحافظ أبو عمرو ـ رحمه الله ـ فإن قيل: فهل يكون مقدارها مقدار ألف أو فوق ألفين ؟ قيل: ذلك غير ممكن بالإجماع، وذلك أن القراء عبروا عن الهمزة المسهلة بأن مقدارها ألف، فهذا أدل دليل على أن مبدأ المد وأدناه ألف (١).
ثم قال في السؤال العاشر مجيبا عن مذهب نافع في المد:
"ومذهب نافع في هذا الباب أن ورشا من طريق المصريين برواية أبي يعقوب الأزرق روى عنه الإشباع في حروف المد واللين إذا تأخرت عنها الأسباب(٢)، والطبيعي (٣) في حروف المد إذا تعرت من السبب، والتوسط في حروف المد واللين إذا تقدم عليها السبب(٤)، واستثنى من ذلك ما وقع قبله(٥) حرف ساكن صحيح نحو "القرءان" و"الظمئان" و"مسئولا" و"مذءوما"، وكذلك الياء من "إسراءيل"، وكذلك "يؤاخذكم" و"ءالن" في الموضعين في "يونس"، و"عادا الأولى" في النجم، فقصر جميع ذلك... ثم ذكر أنه بين وجه ذلك في كتابه الكبير. قال:
"وروى المصريون عنه أيضا في حرفي اللين التوسط... وبعد سطور فيها بعض البتر في المخطوط قال: "باب الهمزتين من كلمة"، هذا الباب ترد عليه عشرة أسولة... وأخذ في طرحها ثم الإجابة عنها.
(١) - هذا النقل بعينه نقله ابن القاضي في الفجر الساطع في باب المد عن كتابي الاقتصاد والتلخيص لأبي عمرو الداني.
(٢) - يعني الهمزة والسكون اللازم والإدغام.
(٣) - يراد بالطبيعي ما يعرف اصطلاحا بالقصر، ومقداره ألف.
(٤) - نحو ءامن وأوتي وإيمانا.
(٥) - أي قبل الهمز فيه حرف ساكن صحيح.


الصفحة التالية
Icon