ومن المعلوم أن الأخذ بموجب هذا الترخيص في قراءة التنزيل بأكثر من حرف قد أدى ابتداء من العهد المدني في زمن النبوة، وفي أثناء خلافة الراشدين، إلى تيسير القراءة وتجاوز مشكل اللهجات المختلفة بين عرب الجزيرة العربية، إلا أنه من جهة أخرى قد عمل مع الزمن على اتساع شقة الخلاف بين قراء الأمصار الإسلامية عقب الفتح، ولاسيما بعد فتح الشام والعراق، وازدياد عمرانها، حتى تجاوز الأمر الحد المأذون فيه، وكاد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين القراء في معسكرات الجند في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ مما حفزه بدعوة من حذيفة بن اليمان إلى تدارك الموقف قبل استفحال الخطر، فجمع من عنده من الصحابة بالمدينة، وأمر بجمع الناس على قراءة واحدة، في مصحف واحد يكتب على لغة قريش وما وافقها في الخط، ويقرأ على حسب العرضة الأخيرة التي عرضها قراء الصحابة على النبي ـ ﷺ ـ، وقرأ بها الجماعة(١)مما لا نحتاج إلى الدخول في تفاصيله، لتكفل عامة كتب التفسير والقراءات ببيانه.
وقد قدمنا شيئا من الحديث عن الخطة التي نهجتها لجنة التدوين في هذا الجمع، وكيف كتبت المصحف بطريقة ذكية، يتأتى فيها جمع ما تواتر من أحرف القراءات أو اشتهر في صورة من الخط يتاح معها لكل قارئ أن يقرأ بقراءته، دون أن يخرج عن المرسوم في المصحف الذي جعلوه "إماما" للناس، فسمي بالمصحف العثماني كما سمي بالمصحف "الإمام". ولهذا جردوه من علامات الإعجام ليتأتى احتواؤه لجميع ما وافق خطه مما صح من وجوه القراءات، ووقائع هذا المشروع وتفاصيله مشهورة لا نطيل بعرضها، وقد روى عمر بن شبة خبرا مفيدا في هذا الباب رأيت أن أسوقه بتمامه لطرافته ودقة تفاصيله، فأخرج بسنده عن أبي محمد القرشي:

(١) - يبطر في هذا مقدمة كتاب جامع البيان لأبي عمرو الداني تحت عنوان "الأحرف السبعة للقرآن" تحقيق عبد المهيمن طحان ٤٦-٤٧.

ويمكننا من خلال كتابه وما وقفنا عليه من الإشارات إلى اختياراته وبعض آرائه ومذاهبه أن نتمثل المستوى العلمي الرفيع الذي تحقق له في هذا الطور الذي بلغت فيه المدرسة المغربية الناشئة طور اليفاعة والقوة، فمن ذلك :
١- ما زاد به على المؤلفين من صيغ في الاستعادة:
فقد ذكر ابن آجروم وأبو عبد الله الخراز تفرده بزيادة ثلاث صيغ، فقال كل منهما بعد أن ساق سبع صيغ نقلا عن ـأبي جعفر بن الباذش: وزاد شيخنا أبو عبد الله بن القصاب ثلاثة ألفاظ لم أقف عليها لغيره وهي: "أعوذ بالله المنان، من الشيطان الفتان، وأعوذ بالله وكلماته، من الشيطان وهمزاته، و"أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم" (١).
٢- ذهابه إلى تفاوت مقدار المد لقالون بين المتصل والمنفصل على خلاف مذهب الداني:
قال ابن المجراد في "إيضاح الأسرار والبدائع": فإذا قلنا بالمد ـ يعني في المنفصل لقالون ـ فهل يسوي بينه وبين المتصل أم لا؟ في ذلك خلاف، فمذهب الشيخ أبي عبد الله بن القصاب ـ رحمه الله ـ أن زيادة قالون في المنفصل أنقص منها في المتصل، نص على ذلك في "تقريب المنافع"، ومذهب الحافظ التسوية بينهما، نص على ذلك في "جامع البيان"، وهو اختيار الأستاذ الخطيب أبي محمد عبد الواحد بن أبي السداد، نص على ذلك في شرح التيسير. قال ابن المجراد: "ومقتضى ما ذكرناه قبل في مذهب ورش عن الحافظ من التفرقة بين المتصل والمنفصل يقوي ما ذهب إليه ابن القصاب رحمه الله تعالى"(٢).
٣- أخذه بالفصل لقالون بين الهمزتين في مثل "أ أنزل و"أ أشهدوا" بمدة:
(١) - اللفظ لابن آجروم في "فرائد المعاني" من باب الاستعاذة، ونحوه في القصد النافع "للخراز، ونقله المنتوري وغيره.
(٢) - إيضاح الأسرار والبدائع – عند قول ابن بري "والخلف عن قالون في المنفصل".


الصفحة التالية
Icon