وقد قدمنا أن إنجاز المشروع العثماني انما جرى بعد اشتهار قراءات طائفة من الصحابة بالأمصار، ممن أرسلوا إليها في زمن عمر وغيره في إطار البعثات الرسمية ـ كما قدمنا ـ ومنهم الثلاثة الذين ذكر ابن شبة في خبره وغيرهم، وقد جمع أبو عمرو الداني مشاهيرهم في قوله في "الأرجوزة المنبهة":
وأقرأ الناس بغير الدار من المهاجرين والأنصار
جماعة بالشام والعراق لما توجهوا إلى الآفاق
فقام بالكوفة عبد الله ثم علي الرفيع الجاه
وقام بالبصرة الأشعري | وهو أبو موسى الرضا الزكي |
... وقبله فيها معاذ قاما مفقها ومقرئا أعواما
فهؤلاء المتصدرونا بهذه الأمصار والمفتونا(١)
كما قدمنا أن عثمان لما نسخ المصحف بعث منه إلى كل مصر من الأمصار المشهورة بنسخة، وأنه انتدب مع كل مصحف قارئا يقرئ الناس بمضمنه، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد قيس مع البصري"(٢).
وبوصول المصاحف العثمانية إلى تلك الأمصار، أصبح القراء والمقرئون مدعوين رسميا إلى إعادة النظر في كثير مما كان متداولا بينهم من حروف القراءة، وأمسى على كل قارئ أن ينزل على مذهب الجماعة في حرفه الذي يقرأ به، "فلما ردوا إلى خط المصحف، التزموا ذلك فيما كان محفوظا، وقرأ كل واحد بما كان عنده ملفوظا مما لا يعارض خط المصحف"(٣).
(١) - الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات للداني (مرقونة بالآلة) تحقيق الدكتور وكاك.
(٢) - الخبر في جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد للجعبري (مخطوط)، ومناهل العرفان للزرقاني ١/٣٩٦-٣٩٧.
(٣) - العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ٢/٢٠٣ طبعة الجزائر.
(٢) - الخبر في جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد للجعبري (مخطوط)، ومناهل العرفان للزرقاني ١/٣٩٦-٣٩٧.
(٣) - العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ٢/٢٠٣ طبعة الجزائر.
"والصحيح قول من يقول الباء، لما فيها من الجهر والشدة وغير ذلك من الصفات المناسبة للقلقلة، وليس في التاء صفة تناسب القلقلة، لأن الهمس والرخاوة تخالف ذلك(١).
ونكتفي بهذه النماذج في بيان إمامة الشيخ وإبراز أثره من خلال كتاب التقريب فيمن جاء بعده.
إذ لا يتسع المجال لتتبع ذلك، ولإمكان الرجوع إليه في كثير من شروح أرجوزة ابن بري وغيرها.
رجال مدرسته:
لعلنا بعد أن نبهنا في صدر ترجمتنا لابن القصاب على ضياع تفاصيل تاريخه وحياته العلمية حتى لا نجد له ولا لترجمته ذكرا في المصادر المغربية الخاصة بالأعلام، لا نطمع أيضا في التعرف على جملة من قرأ عليه بفاس من أعلام العصر وطلاب هذا الشأن، وهم ولا شك كثير، لامامته في الفن، وتصدره للإقراء، وتبريزه في القراءة والعربية معا، ولعل القارئ الكريم يستطيع تمثل المكانة التي كانت له في هذا المجال من خلال تراجم ثلاثة من الأكابر كلهم أخذ عنه وفيهم من كان اعتماده عليه كاملا، وكلهم كان إماما في عصره في أكثر من علم وفن. فمنهم:
أولا: أبو عمران موسى بن محمد بن أحمد الصلحي المرسي الشهير بابن حدادة (٢) نزيل فاس.
ترجم له في جذوة الاقتباس ترجمة مختصره جدا فقال: موسى بن حدادة المرسي، نزيل فاس المحروسة، كان حيا بفاس سنة ٧٢٣(٣).
(١) -نقله ابن المجراد في الايضاح عند قوله "والغنة الصوت الذي في الميم والنون يخرج من الخيشوم. وله نقول كثيرة عنه في المخارج والصفات من شرحه.
(٢) - يظهر أنه بتخفيف الدال والحاء المهملة كما سيأتي، وقد حرف وصحف في "فهرسته ابن غازي" ص ٣٩ بابن جرادة، والصحيح ابن حدادة كما في الفهرسة نفسها من رواية أبي جعفر البلوي في ثبته ٤٦٤.
(٣) - الجذوة ١/٣٤٧ترجمة ٣٧٠.
(٢) - يظهر أنه بتخفيف الدال والحاء المهملة كما سيأتي، وقد حرف وصحف في "فهرسته ابن غازي" ص ٣٩ بابن جرادة، والصحيح ابن حدادة كما في الفهرسة نفسها من رواية أبي جعفر البلوي في ثبته ٤٦٤.
(٣) - الجذوة ١/٣٤٧ترجمة ٣٧٠.