وهكذا كان عمل عثمان في أوانه حسما للمشكلة من أساسها، وقطعا للخلاف من أصله، وحفظا وصيانة لنص القرآن من الزيادة والنقصان.
ولما كانت قراءة قراء الصحابة المشهورين ممن قدمنا أسماء بعضهم قد انتشرت في عامة الأمصار الكبرى، واتسع جمهور الآخذين بها قبل أن يرسل عثمان بالمصاحف الرسمية إليها، كان لا بد من مواصلة الخلافة لرعاية هذا المشروع والسهر على تنفيذ خطته لتحقيق أهدافه في توحيد القراءة على النص المكتوب، ومن ثم كانت الخطوة الثانية بعد إرسال المصاحف ووضعها في المتناول بالمساجد الجامعة بالأمصار، العمل على مصادرة عامة المصاحف الأخرى السابقة عليها وخرقها أو إحراقها، والدعوة بكل وسيلة إلى الاقتصار على مصحف الجماعة أو "المصحف الامام"، ليكون عمدة للناس، ومرجعا لهم عند الاختلاف، وأخذ القراء بالتزام ذلك، والتخلي عن القراءة بغيره مما يخالف المرسوم فيه.
ولقد قام القراء المبعوثون بالمصاحف الرسمية بجهود كبيرة في الأمصار لتلقين قراءة الجماعة وحدها، وإحلالها محل الحروف التي كانت سائدة بها، وكان أكثر هذه الأمصار جمهورا في ميدان القراءة، مدينة الكوفة، إذ كانت قراءة ابن مسعود فيها من الشهرة والانتشار، بحيث لا تزاحمها قراءة أخرى، وكان أصحابه في الصدر الأول جمهورا واسعا كما قال فيهم سعيد بن جبير: "كان أصحاب عبد الله مصابيح هذه القرية"(١)، ولذلك لم يستسغ جمهور قرائها ما دعوا إليه من التخلي عن قراءة إمامهم ومصحفه، والرجوع إلى قراءة زيد والجماعة، على الرغم مما بذله قارئ المصر أبو عبد الرحمن السلمي مبعوث عثمان، الذي جلس للناس يقرئ القراءة العثمانية بالمسجد الجامع بالكوفة من عهد تدوين المصاحف في أول زمن عثمان، إلى زمن امارة الحجاج على العراق حتى توفي(٢).

(١) - الطبقات الكبرى لابن سعد ٦/١٠.
(٢) - ينظر السبعة لابن مجاهد ٦٧-٦٨ ومعرفة القراء الكبار ١/٤٦.

وذكره أبو زكرياء السراج في مشيخة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عمر اللخمي فقال عطفا على شيوخه: وعن الشيخ الأستاذ المقرئ المحقق أبي عمران موسى بن محمد بن أحمد الصلحي الشهير بابن حدادة، تلا عليه الكتاب العزيز في ختمة واحدة جمعا بين قراءة الأئمة السبعة المشهورين من طريق أبي عمرو الداني وأبي محمد مكي وأبي عبد الله بن شريج وأجاز له إجازة عامة في جميع ما يحمله وما صدر عنه من تأليف (فهرسة السراج: ١٥٤-١٥٥- المجلد الأول) وذكره أبو عبد الله محمد بن محمد الحسني البوعناني الفاسي في إجازته لأبي عبد الله محمد الشرقي بن محمد ابن أبي بكر المجاطي الدلائي –كما تقدم- نقلا عن أبي عبد الله محمد بن غازي فقال:
"ومن شيوخ الشيخ أبي عبد الله محمد بن عمر المذكور الذين أخذ عنهم القرآن العظيم بالقراءات المذكورة الشيخ الجليل المحقق المجود المحدث الراوية أبو عمران موسى بن محمد بن موسى بن أحمد الصلحي (١) المرسي الشهير بابن حدادة، حدثه بالقراءات المذكورة عن الشيخ الفقيه الإمام النحوي المقرئ الحافل أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن علي بن عبد الحق الأنصاري عرف بابن القصاب، عن شيخه الأستاذ المقرئ أبي الحجاج يوسف ابن الشيخ المقرئ أبي الحسن علي بن أبي العيش الأنصاري... ثم ساق السند كما تقدم في ترجمة ابن القصاب(٢).
(١) - في الإجازة المخطوطة "الطلحي بالطاء".
(٢) - ص ١٤.


الصفحة التالية
Icon