فمع هذا الجهد ظل المقام الأول في هذه المدينة لقراءة ابن مسعود، وبقيت قراءة زيد والجماعة فيها محدودة تكاد تختص بالجهاز الرسمي، وقد قدمنا قول سليمان بن مهران الأعمش (ت ١٤٨هـ) :"أدركت أهل الكوفة وما قراءة زيد فيهم، إلا كقراءة عبد الله فيكم اليوم، ما يقرأ بها إلا الرجل والرجلان"(١).
ولقد أشرنا في صدر هذا البحث إلى بعض جهود الحجاج عامل الأمويين في تعميم المصحف العثماني، ونزيد هنا فيما يخص قراءة ابن مسعود ومصحفه، أنه تصدر لهما وعمل على استئصال شأفتهما بكل سبيل، حتى انه نعت في خطاب له ألقاه بالمسجد الجامع بالكوفة ـ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بـ"عبد هذيل" وقال: "يزعم أن قراءته من عند الله، والله ما هي إلا رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها الله على نبيه عليه السلام(٢).
ولا شك أن الحجاج كان يعالج الأمر من منطق سياسي محض، إذ كان يرى في الانحراف عن مصحف عثمان انحرافا عن الخليفة نفسه ثم عن أوليائه القائمين بعده من بني أمية، فالولاء للبيت الحاكم هو الذي أملى عليه هذا الحرص، ودفعه في هذا الطريق، وكان كما قيل عنه: "يتقرب إلى بني أمية، ويمت إليهم بكل حيلة"(٣)، فمن هنا كان نيله من ابن مسعود وقراءته "وكان يعاقب عليها"(٤)وكان ذلك مما اضطر بعض أصحاب عبد الله إلى إخفاء مصاحفهم ودفنها زمن الحجاج كما فعل الحارث بن سويد التيمي(٥).

(١) - السبعة في القراءات ٦٧.
(٢) - سنن أبي داود ٢/٥١٤.
(٣) - نكت الانتصار للباقلاني ٣٩٨.
(٤) - التمهيد لابن عبد البر٨/٢٩٨.
(٥) - ذكره الزمخشري في تفسير سورة الفتح من الكشاف ٣/٥٤٠.

- "والشيخ الجليل الأستاذ النحوي المحقق أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الغافقي(١)، وحدثه بالقراءات السبع عن شيخه الفقيه المقرئ المحدث الراوية أبي بكر محمد بن محمد الأنصاري البلنسي الشهير بابن مشليون(٢) قراءة منه عليه لحروف الإختلاف بين القراء وتلاوة لبعض الكتاب بالقراءات المذكورة، عن شيخه القاضي أبي بكر(٣) بن أحمد ابن عبد المالك بن أبي جمرة عن أبيه أحمد عن الحافظ أبي عمرو... وذكر طرقا أخرى لابن مشليون عن الداني أبي عمرو الحافظ، ثم ذكر أبو عبد الله بن عمر من شيوخ شيخه أبي عمران بن حدادة:
- الشيخ الأستاذ المقرئ المحقق أبا الحسن علي ابن الشيخ الصالح التقى الزكي الحاج أبي الربيع سليمان الأنصاري القرطبي... وسنذكر إسناده للقراءات عنه في ترجمته بعون الله. ثم قال أبو عمران بن حدادة:
- وحدثني بها أيضا الشيخ الأستاذ المقرئ المجود أبو القاسم محمد بن عبد الرحيم المعروف بابن الطيب(٤)، أجاز لي ما تحمله عن شيوخه، منهم الشيخ الفقيه المقرئ المحقق أبو عمرو عياش بن أبي بكر الطفيلي(٥) ابن محمد بن عياش عرف بابن عظيمة، تحمل عن الأستاذ أبي الحسن علي بن جابر المعروف بابن الدباج أجاز لي جميع رواياته.
(١) - تقدم في أصحاب ابن أبي الربيع بسبتة.
(٢) -ترجمنا له في مشيخة الاقراء بسبتة.
(٣) -في المخطوطة أبي محمد والصحيح ما أثبتناه كما تقدم في أسانيد كثيرة.
(٤) في المخطوطة محمد بن عبد الرحمن، والصحيح ما أثبتناه، وهو محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الطيب أبو القاسم القيسي الضرير، وقد ترجمنا له في مشيخة الاقراء بسبتة، إنتهت إليه رئاسة الأقراء بها، وكان يحفظ التيسير والكافي، ومات في رمضان سنة ٧٠١ –ترجمته في غاية النهاية ٢/١٧١ ترجمة ٣١٣١ والذيل والتكملة ٦/٣٧٠.
(٥) -كذا والمراد ابن الطفيل، وقد تقدم أنه أخذ القراءات عن أبيه وعن أبي الحسن شريح وترجمنا له في أصحابه.


الصفحة التالية
Icon