وكان على أولئك الأئمة أن يبادروا إلى تدارك ما اتسع من شقة الخلاف فيما يحتمله الرسم، حتى لا يزداد الأمر تفاقما بمضي الزمن، وتدخل في القراءة حروف لا أصل لها، فأخذ كل إمام في مصره يجري على رواياته في حروف القراءة مزيدا من التنقيح والتمحيص، تحريرا لها من الزائف والضعيف، ولم يعد القارئ يكتفي في هذا الطور من أهل هذا الرعيل الطيب بأن يظل بمثابة الصدى لشيوخه الماضين يروي رواية كل شيخ منهم على حدة كما تلقاها عنه، ثم ينقلها نقلا أمينا إلى أهل زمنه، بل أصبح مدعوا إلى إجراء عملية استقراء لمحفوظاته منها، ودراستها دراسة متأنية، لاختيارأوثق وجوهها سندا، وأوسعها شهرة واستفاضة، وأفصحها لغة وأداء، وأقواها تأويلا واعتبارا، وأجراها على قراءة الجماعة ورسم مصحفها، وهكذا "تركوا من قراءاتهم التي كانوا عليها ما يخالف خط المصحف، فاختلفت قراءة أهل الأمصار لذلك،... وسقط من قراءتهم كل ما يخالف الخط، ونقل ذلك الآخر عن الأول في كل مصر، فاختلف النقل لذلك حتى وصل إلى هؤلاء السبعة، فاختلفوا فيما نقلوا، واختلفت أيضا رواية من نقلوا عنه لذلك، واحتاج كل واحد من هؤلاء القراء أن يأخذ مما قرأ وبترك"(١).
وهذا الأخذ والترك كان وفق معايير خاصة، وحسب أصول مجمع عليها بين السلف، وهو المراد عندهم في الاصطلاح باسم "الاختيار"، وعلى أساسه تقوم مادة القراءات، وعليه المدار في تلك الكيفيات من التلاوة والأداء التي تضاف إلى القراء وتمهر بأسمائهم، فيقال اختيار نافع واختيار ابن كثير وحرف حمزة إلخ، وكلها إنما تعني أمرا واحدا، هو هذا الذي ينتهي إليه الشيخ من استعراض رصيده من الروايات والآثار، وأخذه منها بما يختاره من الوجوه، وفي هذا المعنى يعطينا ابن الجزري هذا التحديد لطبيعة الاختيار حينما ينسب إلى قارئ من القراء، فيقول:

(١) - الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب ١٤.

"اختلف القراء –رضوان الله عليهم- في كيفية النطق بالتسهيل، هل يجوز أن يسمع فيه صوت الهاء مطلقا كيفما تحركت الهمزة؟ وبه قال الحافظ أبو عمرو(١)، وبه الأخذ عندنا بفاس والمغرب، أم لا يجوز مطلقا، وبه قال أبو شامة والجعبري(٢)، والقول الثالث لابن حدادة، فأجازه في المفتوحة خاصة دون المضمومة والمكسورة قال شيخنا مشيرا للأقوال الثلاثة:
واختلفوا في النطق بالتسهيل فقيل بالهاء بلا تفصيل
وقيل ممنوع على الإطلاق وقيل في المفتوح قط باق (٣).
وإنما يهمنا هنا من هذه القضية إبراز مكانة أبي عمران بن حدادة باعتباره أحد أئمة الأداء البارزين في هذا الطور ممن كان يعتد بأقوالهم واختياراتهم في مسائل الخلاف، وحسبه نباهة ونبلا أن يذكر مذهبه في مقابلة مذهبي الحافظين أبي عمرو الداني وأبي شامة الدمشقي، ولعلنا لو أتيح لنا التعرف على بعض آثاره لوقفنا على مزيد من الأمثلة الدالة على حذقه وإمامته ومكانته وصلته الوثيقة بهذه المدرسة الأصولية التي وضع قواعدها شيخه ابن القصاب.
الفصل الثاني:
أبو عبد الله بن آجروم الصنهاجي صاحب المقدمة الآجرومية في النحو.
(١) - لا أعلم للداني قولا صريحا بذلك في كتبه وسيأتي الرد على ذلك.
(٢) - قول الجعبري مذكور في كنز المعاني في باب الهمزتين، وقد نقله ابن القاضي في الفجر الساطع..
(٣) - البيتان لأبي زيد بن القاضي ذكرهما لنفسه في الفجر الساطع عند إيراده لهذه المسألة.


الصفحة التالية
Icon