"معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة أو غيرهم، إنما هو من حيث أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم، المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسب ما قرأ به، فآثره على غيره، ودام عليه ولزمه حتى اشتهر به وعرف به وقصد فيه، وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد"(١).
أطوار ومراحل تكون القراءة قبل استقرارها على الوجوه الرسمية التي اختارها الأئمة:
وبهذا يتضح أن الأطوار التي مر منها علم القراءات هي الأطوار الثلاثة التي مر منها غيره من علوم الرواية كالتفسير والفقه والحديث، وأن ما انتهى إليه القراء من هذه الاختيارات التي تنسب إلى أئمة القراء بالأمصار، شبيهة في صورتها بالاختيارات التي تنسب إلى أئمة الفقه مثلا في صورة "مذاهب" فقهية تعزى إلى أئمة الأمصار، وباستقراء هذه المراحل يتبين أنها مراحل ثلاث:
أ مرحلة السمع، وتبتدئ بالسماع والتلقي مباشرة عن مشكاة النبوة من لدن رواة العلم الذين سمعوا القرآن غضا من رسول الله ـ ﷺ ـ، ثم من لدن من سمع منهم من التابعين.
ب مرحلة الجمع، وهي المرحلة الموالية، وقد مثلها كبار رواة العلم من أئمة التابعين من القراء والفقها فكان عملهم منصبا على جمع الأحاديث والآثار الواردة في القراءة والتفسير ونحو ذلك عن مصادرها التي أخذت عن المصدر الأول.
أما ثاني علم وقفنا عليه تخرج على أبي عبد الله بن القصاب من هذا الرعيل فهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي ثم الفاسي الأستاذ العلامة النحوي المقرئ المشهور بابن آجروم وصاحب "المقدمة الآجِرومية" المشهورة في النحو، وعليها قامت شهرته في المشرق والمغرب"(١).
ويعتبر أبو عبد الله بن آجروم ثاني أعظم النحويين الذين أنجبتهم المدرسة المغربية بعد أبي موسى عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت الجزولي صاحب "الكراسة" أو "القانون" في النحو كما قدمنا، ولئن كان أبو موسى الجزولي إماما في القراءات(٢) مع أن أكثر من يعرفونه لا يعرفون منه إلا الجانب الذي أشهر فيه وهو النحو، فإن الأمر بالنسبة لأبي عبد الله بن آجروم لا يختلف أو يكاد، إذ قل من العارفين به من يعرف له إلى جانب فنه الذي اشتهر فيه نبوغه المتميز في القراءات، وسبب ذلك في الغالب هو ما نجده من تقصير كتب التراجم في حقه، إذ نجدها تقتصر في ترجمته على التحليات المألوفة دون أن تعتني بذكر مشايخه أو جملة مؤلفاته وآثاره.
(٢) - غاية النهاية ١/٦١١- ترجمة ٣٤٩٣.