ج- مرحلة التحرير والتمحيص وتهذيب الروايات والآثار بالنظر في معانيها وتأويلها، ودرجة ثبوتها، ومعرفة صحيحها وسقيمها، واستنباط القواعد والأحكام منها، وتدوين الاختيارات الخاصة بكل إمام، وهي الاختيارات الكبرى التي تعزى إلى الأئمة المجتهدين في المجالين الفقهي والقرائي، وهي أيضا تمثل ثمرة مجهود كبير استفاد فيه الخلف من السلف، وزادوه تحريرا وضبطا وتهذيبا، وإلى هذه المراحل الثلاث أشار بعض الفقهاء بقوله:
فأول سمع والثاني جمع وثالث حرر فقها يتبع(١)
وكما أن علماء أصول الفقه قد استنبطوا للفقه قواعد نسجوا على منوالها، فقد استنبط علماء أصول القراءات أصولا للقراءات جعلوها معايير للقبول والرد، أشار إلى عناصرها الإمام مكي بن أبي طالب فقال:
"وهؤلاء الذين اختاروا إنما قرأوا لجماعة وبروايات، فاختار كل واحد مما قرأ وروى قراءة تنسب إليه بلفظ "الاختيار"، وقد اختار الطبري وغيره(٢)، وأكثر اختيارهم إنما هو في الحرف إذا اجتمعت فيه ثلاثة أشياء:
أ قوة وجهه في العربية.
ب موافقة المصحف.
ج- اجتماع العامة عليه.
"والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فذلك عندهم حجة توجب الاختيار، وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين، وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه نافع وعاصم، فقراءة هذين الإمامين أولى القراءات وأصحها سندا، وأفصحها في العربية، ويتلوها في الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو بن العلاء والكسائي"(٣).

(١) - انتصار المجتهد لمحمد العربي بن البهلول ٤١.
(٢) - ينظر أهل الاختيار للحروف في المنبهة للإمام الداني.
(٣) - الإبانة لمكي ٨٩ ومثله في البرهان للزركشي ١/٣٣١.

وقد نبه العلامة عبد الله كنون ـ رحمه الله ـ على هذا التقصير الذي كثيرا ما أزرى بعدد من العلماء الأجلاء وذلك في البحث الذي خصصه له في سلسلة الأعلام الذين ترجم لهم في "ذكريات مشاهير رجال المغرب"(١).
ترجمته:
ومن الطريف ـ كما تقدم في شأن ابن القصاب ـ أن الترجمة الأقرب إلى الشمول في حقه هي ترجمة متلقاه من مصادر مشرقية، فقد عرف به الإمام السيوطي في البغية نقلا عن ابن مكتوم في تذكرته فقال فيه:
محمد بن محمد الصنهاجي أبو عبد الله من أهل فاس يعرف ب"أكروم"، نحوي مقرئ، وله معلومات من فرائض وحساب وأدب بارع، وله مصنفات وأراجيز في القراءات وغيرها، وهو مقيم بفاس يفيد أهلها من معلوماته المذكورة، والغالب عليه معرفة النحو والقراءات، وهو إلى الآن حي، وذلك في سنة تسع عشرة وسبعمائة.
ثم نقل السيوطي عن الحلاوي في شرحه للجرومية قوله: "وكان مولد مؤلف الجرومية عام ٦٧٢هـ، وكانت وفاته سنة ٧٢٣ في شهر صفر الخير، ودفن داخل باب
الجديد بمدينة فاس ببلاد المغرب(٢).
ولقد كان من لطائف الأقدار أن كانت ولادة أبي عبد الله بن آجروم في السنة ذاتها التي توفي فيها الإمام أبو عبد الله ابن مالك صاحب الألفية المشهورة في النحو الذي توفي بالشام سنة ٦٧٢، فنبه غير واحد ممن أرخ له بقوله مشيرا إلى هذا التوافق العجيب: توفي نحوي وولد نحوي(٣).
أما نشأته وحياته الأولية فقد اكتنفها الغموض، فلا حديث في المصادر عنها، وكل ما ذكروه عنه وعن قبيلته ومقر سكناه أنه "كان من صنهاجة: عمل بلدة صفرو، لكنه ولد بفاس بعدوة الأندلس منها"(٤).
(١) - ينظر ذكريات مشاهير رجال المغرب –ابن آجروم ٩-١٠، نشر دار الكتاب اللبناني، بيروت.
(٢) - بغية الوعاة ١/٢٣٨-٢٣٩ ترجمة ٤٣٤.
(٣) - ينظر في ذلك درة الحجال ٢/١٠٩ ترجمة ٥٥٢- وجدوة الإقتباس ١/٢٢١-٢٢٢ ترجمة ١٨٩- وذكريات مشاهير رجال المغرب –ابن آجروم- ٩-١٠.
(٤) - ذكريات مشاهير رجال المغرب –ابن آجروم ٩-١٠.


الصفحة التالية
Icon