وهذا التقويم الذي ذكر مكي ـ رحمه الله ـ، وإن كان مستقى من مناهج أئمة القراء الذين كانت لهم اختيارات بعد زمن السبعة، بعد أن أصبحت قراءاتهم نماذج تحتذى في مجال الموازنة بين أوثق وجوه القراءات، فإنه مع ذلك يرسم لنا الإطار الذي اختار السبعة أنفسهم في ظلاله، "حيث قام كل فرد من القراء في تلكم الفترة بالنظر فيما روى من حروف قرائية مختلفة، واختار من بينها حروفه، على أساس من مقياس معين انتهجه في الموازنة والاختيار قد يرجع إلى مستوى وثاقة السند، وقد يرجع إلى قوة الوجه في العربية، وقد يرجع إلى مطابقة الرسم، وربما رجع إلى عوامل أخرى، ثم بعد اختياره يتبناه، فينسب إليه، ويسمى اختياره حرفه، وفي ضوئه نستطيع أن نعرف "الاختيار" بأنه: الحرف الذي اختاره القارئ من بين مروياته، مجتهدا في اختياره"(١).
فإذا كان هذا منهج عامة أصحاب الاختيارات، فما هي المعالم التي تحدد اختيارات الإمام نافع خاصة؟ وهل اكتفى بالمعايير الثلاثة التي حددها الإمام مكي بن أبي طالب، أم تجاوزها إلى اعتبار عوامل أخرى معها كما ذكر الفضيلي؟؟
عناصر الاختيار عند الإمام نافع كما تستقرأ من أخباره وأقوال الأئمة عن قراءته:
سلك الإمام نافع في اختياراته في القراءة ذلك المنهج نفسه الذي سلكه أئمة الاختيار من أهل الأمصار، وسار على الطريقة نفسها، إلا أن نافعا في شروطه في الاختيار كان أكثر صرامة من غيره من قراء الصدر الأول ـكما سنرى ـ، ولاسيما من جهة النظر في الأسانيد، فلذلك اعتبروا قراءته وقراءة عاصم أولى تلك القراءات وأصحها سندا كما قدمنا. ونجمل فيما يلي أهم عناصر الاختيار عنده في النقط التالية:
١- اعتماده على الرواية والنقل في اختياراته، لا على الاستحسان والقياس.
٢- اشتراطه توافر عنصري الثقة والضبط في الرواة مع سلامة الذمة من الخوارم.
ولقد اعتذر العلامة كنون في بحثه عنه منبها على قلة المعلومات عنه بقوله:
"نشأ ودرس بفاس طبعا، وإن كنا لا نعرف شيئا عن نشأته ولا عن دراسته، حتى شيوخه الذين أخذ عنهم لم يذكرهم أحد، ما عدا أبا حيان النحوي صاحب التفسير الكبير المعروف ب"البحر المحيط"، فإنهم ذكروا أن المترجم أخذ عنه بمصر في طريقه إلى الحج" (١).
وهذا يقودنا إلى القول بأن المترجم كان خفي الشأن في أغلب حياته لا يكاد يعرفه إلا طلبته ورفاقه في الدرس والتحصيل، ولعله لذلك وبسببه اقتحمته عيون الطبقة المتنفذة فلم يؤثر عنه أنه كان على صلة بالسلطان مع ما قدمنا من حفاوة معاصريه من أمراء بني مرين بالعلماء وانتدابهم للكون في صحبتهم، ولذلك نجده عاكفا على الدرس والتأليف مكتفيا في سد رمق العيش ببلغة يستفيدها لعله من تعليمه للصغار ـ شأنه شأن صاحبه أبي عبد الله الخراز كما سيأتي في ترجمته ـ ولذلك ذكر أنه "كان من مؤدبي أهل فاس(٢)، وكان يسكن بعدوة الأندلس منها(٣).
وعلى الرغم من هذا المستوى الذي تذكره له كتب التراجم في التحليات المجملة التي تحليه بها، فإننا لا نكاد نجد له ذكرا في غير المجال العلمي الذي كانت مؤلفاته وآثاره هي التي نبهت فيه على مقداره، ونطقت برسوخ قدمه في هذا الشأن واقتداره، ولعل هذه الشهرة جاءته متأخرة، يضاف ذلك إلى أنه لم يكد يبلغ سن النضج والعطاء حتى وافاه الأجل ولما يتخط الخمسين إلا بنحو السنة.
فإذا ضممنا إلى هذا زهده الشخصي في المنصب والجاه واختياره حياة التبتل العلمي والتفرغ للطلب والإفادة، أدركنا أي رجل كان، وأي عصامية كانت وراء ما قام له في المشرق والمغرب من شهرة وذيوع صيت، مما عبر عنه ولده أبو المكارم منديل بصدق في قوله مفتخرا بانتمائه إلى هذا البيت:
(٢) - عبارة ابن القاضي في درة الحجال: كان من مؤدبي أهل مدينة فاس ٢/١٠٩.
(٣) - جذوة الإقتباس ١/٢٢١-٢٢٢.