ولا غرو أن اهتمام هذه المصادر بدخول الصحابة إلى هذه الجهات له مغزاه الخاص، فلقد كانوا ـ رضوان الله عليهم ـ مادة الإسلام الأولى وحملة الكتاب ومعلمين للأجيال الحلال والحرام، والقائمين على حدود الله علما وعملا وتوجيها، لاسيما في معسكرات الجهاد التي كانت يومئذ أشبه بمدارس متنقلة، وكان الرجل يطرق الفسطاط طروقا فيسمع لأهله دويا كدوي النحل(١).
لقد كانت قراءة القرآن والتهجد به وتعلمه وتعليمه الشغل الشاغل لهم لاسيما في فترات الاستجمام والراحة، ولهذا كان تسجيل دخول الصحابي إلى بلد من البلدان مثار اهتمام خاص. وذلك لما كان يترتب على دخوله من آثار في التعليم والتوجيه وحفز الهمم على التفقه في الدين ومعرفة حدوده وأحكامه، ولذلك كان الاهتمام كبيرا بإرسال هذه الكفاءات مع الجند وانتدابها من لدن الخلفاء للقيام بمهام القيادة والإمامة والتعليم والتوجيه وغير ذلك من الوظائف الدينية.
وقد توجهت همم الفاتحين منذ البداية إلى العمل على تحفيظ القرآن للمغاربة ونشره بينهم وتعميم تعليمه في الجهات والأقاليم، وقد سلكوا لتحقيق ذلك أكثر من سبيل، ويمكن للباحث أن يتمثل عملهم في ذلك فيما أخذوا به من الوسائل التالية:
أ ـ في بعثات التوجيه والإقراء.
ب ـ في تأسيس الربط الجهادية وتعميرها والإشراف على التعليم فيها.
ج ـ في بناء المساجد الجامعة والخاصة وتنصيب الأئمة والمقرئين بها.
د ـ في إحداث مكاتب ومحاضر لتعليم القرآن وتنظيمها وتعميمها.
هـ ـ في العناية باستنساخ المصاحف الشريفة وتجويدها ونشرها.
وسنقف عند كل عنصر منها وقفة خاصة، لإعطاء صورة تقريبية عن عملهم من خلاله دون إفاضة في التفاصيل.
بعثات التوجيه والإقراء في عهد الصحابة والتابعين

(١) - التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص ٣٤.

"وأعدل من ذلك في الحكم، وأجرى على ما يناسب أهل الدين ويليق بأولي العلم ابتداء وجوابا، ما كتب به بعضهم إلى المقرئ أبي الحسن شريح(١) :
أيا راكبا قاصدا أرض حمص(٢)
فإما بلغت فسائل شريحا فذاك الذي في العلا ما نكص
بحرف يمد على غير أصل... وقد جاء في قصره أصل نص
وما حركت قبله أحرف... ولا جاء بدءا وبالمد خص
ولا قبله حرف مد يرى... فصيدك للعلم أغلى قنص
قال: فأجابه شريح وأبدى علة ذلك، وحضر مجلسه الأديبان: أبو جعفر أحمد بن عبيد الله بن هريرة القيسي التطيلي الأعمى وأبو بكر محمد بن حزم المدحجي، فأجاباه نظما باقتراح الخطيب المقرئ أبي الحسن شريح رحمهم الله أجمعين.
أما جواب أبي بكر بن حزم فقوله:
أتأني رسولك يقفو الصواب... فإما يعم وإما يخص
بعثت إلي به خاتما... فركبت فيه من العلم فص
تسائل عن مد "سوءاتكم"... وقد جاء في قصره أصل نص
ولكن ورشا رعى أصلها... فلم يتحيف ولم ينتقص
وصح له فتحها عن هذيل... فلم يستعن بجناح أحص
وأما جواب أبي بكر بن حزم فقوله:
أيا موجفا في طلاب العلا... ليوضح من سبلها ما انغمص
ويا سائلا عن دقيق العلوم إليك فقد أمكنتك الفرص
بـ"سوءاتكم"لم ير القصر فيها على أصل ورش لأمر ينص
لأن كان ساكنها عارضا... وبالفتح من حقه أن يخص
أتاك الجواب فقم فاقتنصه فقيمة كل امرئ ما اقتنص(٣)
جواب الإمام أبي القاسم الشاطبي:
(١) - تقدمت الإشارة إلى هذا في ترجمة أبي الحسن شريح بن محمد الرعيني.
(٢) - يريد أهل الأندلس بحمص مدينة أشبيلية لنزول أهل حمص الشامية بها بعد الفتح لما وزعت القبائل على نواحي الأندلس كما قدمنا في صدر هذا البحث. وإلى حمص هذه يشير أبو الحسن الحصري مخاطبا المعتمد بن عباد:... لسرد النظوم ودرس القصص
... حمص الجنة قالت...... لغلامي لا رجوعا
... رحم الله غلامي...... مات في الجنة جوعا (وفيات الأعيان ٣/٣٣٣).
(٣) - يمكن الرجوع إلى ما ذكرنا في ترجمة الشاطبي من الذيل والتكملة السفر ٥ القسم ٢/٥٤٨ـ٥٥٧ ترجمة ١٠٨٨.


الصفحة التالية
Icon