كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون أن أنجع الوسائل وأنفعها في تثبيت الإسلام وتعميق الإيمان في النفوس، هو تعليم القرآن ونشره وتعميمه، بل كانوا يعدون ذلك أفضل الجهاد، انسجاما مع الأحاديث النبوية في ذلك والتي تجعل الاشتغال به تعلما وتعليما أفضل الأعمال، وتعد خير أفراد الأمة من تعلم القرآن وعلمه(١). ولهذا لم يكونوا يجدون لأنفسهم عذرا في التخلف عن الخروج في حملات الجهاد إلى مختلف الجهات، حتى مع تقدم السن، والعجز عن البلاء الحسن في القتال، إذ كانوا يعتبرون حركة الجهاد تعبئة عامة لا يغني فيها مقام الجندي في الميدان، عن مقام القارئ والمرشد في المعسكر والرباط، ولقد قيل للمقداد بن الأسود ـ رضي الله عنه ـ وقد شوهد جالسا على تابوت في معسكر الجند بمدينة حمص عقب فتح الشام، وذلك بعد أن امتدت به السن، فقيل له: أنت اليوم من أهل الأعذار، فقال: "أتت علينا البحوث"(٢)مشيرا إلى قول الله تعالى في هذه السورة:
"انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون"(٣).
ولقد كانت هذه الكفاءات التعليمية تزود حملات الجهاد بروح إيمانية عالية، وكان يتطوع فيها للتعليم والتوجيه مجموعات من الصحابة والتابعين يكون عليها الاعتماد في الأمور التي ترجع إلى التعليم الديني، وكان فيهم من ينتدب رسميا من دار الخلافة مما يمكن تسميته ببعثات الإقراء والتعليم المنظم، ومن أهم تلك البعثات لهذا العهد في المناطق المغربية في زمن الفتح:
١- بعثة عقبة بن نافع الفهري

(١) - ينظر حديث عثمان عن النبي ﷺ "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" صحيح البخاري ٣/٢٣٢.
(٢) - المراد سورة التوبة لأنها بحثت عن أحوال المنافقين وهتكت أستارهم، ينظر سر تسميتها بذلك في الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/٥٤- وخبر المقداد عند أبي نعيم في حلية الأولياء ١/١٧٦.
(٣) - سورة التوبة آلآية ٤١.

وأجابه الإمام الشاطبي وبين وفاة الحصري وميلاد الشاطبي خمسون سنة كما ذكره ابن القاضي(١).
قال الشاطبي في جوابه:
عجبت لأهل القيروان وما حدوا لدى قصر سوءات وفي همزها مدوا(٢)
لورش ومد اللين للهمز أصله سوى مشرع الثنيا(٣) إذا عذب الورد
وما بعد همز حرف مد يمده سوى ما سكون قبله ما له مد(٤)
وفي همز "سوءات" يمد وقبله سكون بلا مد، فمن أين ذا المد؟
وهذا طرح لسؤال الحصري وبسط لوجه الاستشكال فيه، ثم أجاب الشاطبي عنه فقال:
يقولون عين الجمع فرع سكونها فذو القصر بالتحريك الأصلي يعتد
ويوجب مد الهمز هذا بعينه لأن الذي بعد المحرك ممتد
ولولا لزوم الواو قلبا لحركت بجمع لفعلات في الاسما له عقد
وتحريكها واليا هذيل وان فشا فليس له فيما روى قارئ عد
ثم قال عاتبا على الحصري وضع السؤال غير مشفوع بما يبين مراده على خلاف ما يقتضيه النصح في التعليم:
وللحصري نظم السؤال بها وكم عليه اعتراض حين فارقه الجد
ومن يعن وجه الله بالعلم فليعن عليه، وإن عنى به خانه الجد(٥)
جواب الشاعر المقرئ أبي إسحاق إبراهيم بن طلحة البياتي المعروف بابن الحداد:
ألا أيها الأستاذ والله راحم... وغافر لهو ظلتم دهركم تشدو:
"أسائلكم يا مقرئ الغرب كله وما لسؤال الحبر عن علمه بد
بحرفين مدو ذا وما المد أصله وذا لم يمدوه ومن أصله المد على
(١) - ذكره عند ذكر سوءا ت في باب المد من الفجر الساطع.
(٢) - في بعض نسخ الفجر الساطع وفي وواوها مدواـ والصحيح ما أثبته عن فتح الوصيد والذيل والتكملة والجعبري.
(٣) - قال الجعبري في الكنز: "سوى موضع الاستثناء "يعني ما استثني لورش من ذلك باتفاق وهما موئلا والموءودة".
(٤) - في الذيل والتكملة "ما له بد" وهو تحريف.
(٥) - جواب الشاطبي في فتح الوصيد والذيل والتكملة وكنز المعاني وشرح المنتوري على الدرر اللوامع وإيضاح الأسرار والبدائع لابن المجراد والفجر الساطع لابن القاضي وغيرها.


الصفحة التالية
Icon