ولم يكن الإمام نافع في رفضه لاستعمال القياس فيما سبيله الرواية، بدعا في أئمة القراء المعتمدين، فالنقول المستفيضة عن نظرائه من باقي السبعة كلها تنعى على اعتماد القياس في كتاب الله، وهذا سفيان الثوري يقول عن شيخه حمزة بن حبيب: "ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر"(١).
وهذا شيخ أئمة اللغة وسيد القراء بالبصرة أبو عمرو بن العلاء يقول: "ما قرأت حرفا من القرآن إلا سماعا وإجماعا من الفقهاء، وما قلت فيه برأي، إلا حرفا واحدا، فوجدت الناس قد سبقوني إليه"(٢).
وقال الأصمعي: "قلت لأبي عمرو بن العلاء: "وبركنا عليه"(٣)في موضع، "وتركنا عليه" في موضع أيعرف هذا ـ يعني بالقياس ـ؟ قال: ما يعرف، الا أن يسمع من المشايخ الأولين"(٤).
وهذا أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي ـ سابع السبعة ـ يقول: "لو قرأت على قياس العربية، لقرأت "كبره"(٥)برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، ولكني قرأت على الأثر"(٦).
فلا دخل إذن للقياس والاجتهاد الشخصي فيما طريقه الرواية، إلا في اختيار ما هو أوثق في الثبوت أم أفصح في الأداء، أو أكثر انسجاما مع التأويل المأثور، ولا أثر لغير ذلك من الرأي الذي قد يحتمله الرسم، أو يقبله اللفظ ويتضح به المعنى، ولذلك قرر علماء هذا الشأن امتناع القراءة بالقياس المحض وحده فقال أبو عمرو الداني في "المنبهة:
(٢) - نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني ٤١٦.
(٣) - يعني قوله تعالى "وباركنا عليه وعلى إسحاق" سورة اليقطين ١١٣، وقبلها وبعدها" وتركنا عليه في الآخرين" الآيات ٧٨-١٠٨-١٢٩.
(٤) - السبعة في القراءات لابن مجاهد ٤٨.
(٥) - يعني قوله تعالى: "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " سورة النور الآية ١١.
(٦) - جمال القراء للسخاوي ١/٢٤١.
زعيم هذه المدرسة وناشر لوائها، ومن العجيب أن يفوت ذكره جميع من ترجموا له في الكتب التي في أيدي الناس قديما وحديثا، مع شدة عنايته بذكره في تأليفه الباقي "فرائد المعاني" و إيراده لمذاهبه ابتداءا من باب التعوذ حيث ذكر ما قدمنا من زيادته لثلاث من صيغ الاستعاذة صدر لذكرها ابن آجروم بقوله: "وزاد شيخنا أبو عبد الله بن القصاب ثلاثة ألفاظ لم أقف عليها لغيره...(١).
وذكر أيضا في باب الهمزتين من كلمة مذهب شيخه في الفصل لقالون بالمد في مثل أ أنزل وأ ألقي مصدرا لذكره بقوله: "وكان شيخنا أبو عبد الله محمد بن القصاب..."(٢). ويمكن الرجوع إلى كتابه المذكور لتتبع نقوله وإشاراته إليه مما يدل على صلته الوثيقة به وارتسامه في أصحابه، وربما كان أستاذه في العلمين معا: القراءات والعربية، ولقد كان الظن به ـ أن يذكر في صدر شرحه المذكور على الشاطبية سنده بقراءتها أو بالقراءة بمضمونها على من قرأها عليه، ولكنه لم يفعل، واكتفى بما قدمنا عند ذكر شروح الحرز ـ بذكر بواعثه على التأليف في ذلك قائلا:
"ولم أزل منذ حفظي لها مولعا بالنظر في معانيها، مغرى بتأمل مقاصدها ومناحيها... إلى آخر ما قاله في التصدير لشرحه المذكور(٣).
ومهما يكن فإننا قد وضعنا ـ بتوفيق الله ـ أيدينا على أحد شيوخه الكبار وهو أبو عبد الله بن القصاب.
٢- أبو القاسم محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الطيب القيسي الضرير الخضراوي.
(٢) - المصدر نفسه عند قوله: "ولا مد بين الهمزتين هنا ولا بحيث ثلاث يتفقن تنزلا".
(٣) - يمكن الرجوع إلى ما قدمناه في العرض الموجز الذي عرفنا به شرحه هذا ضمن شروح الشاطبية.