فمن قرأ مثلا في سورة الفاتحة "ملك يوم الدين" مختارا حذف الألف، لا يختلف في شيء عمن اختار "مالك" بالألف، فالقراءتان معا متواتران، واختيار القارئ لهذه على تلك لا يمس منزلتهما في الصحة والثبوت.
قال الحافظ ابن الجزري: "والشبهة دخلت عليهم من انحصار أسانيدها في رجال معروفين، فظنوها كاجتهاد الآحاد.. ثم ذكر أنه سأل شيخه إمام الأئمة أبا المعالي ـ رحمه الله تعالى ـ(١)عن هذا الموضع، فقال: "انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن غيرهم، فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد يقرؤه منهم الجم الغفير عن مثلهم، وكذلك دائما، والتواتر حاصل لهم، ولكن الأئمة الذين تصدروا لضبط الحروف، وحفظوا شيوخهم فيها، وجاء السند من جهتهم...(٢).
ولهذا الملحظ الذي نبه عليه ابن الجزري وشيخه أبو المعالي، حذر طائفة من العلماء من السقوط في خطأ المفاضلة بين الوجوه المتواترة في القراءة بصورة تؤدي إلى إنكار وجوه القراءات الأخرى، مع تساويها في التواتر والاستفاضة(٣)، كما لوحظ ذلك على الإمام الطبري في تفسيره على جلالة قدره(٤)، ولذلك يقول العلامة أبو جعفر النحاس ـ أحد رجال مدرسة ورش في مصر ـ: "السلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان عن الجماعة أن لا يقال إحداهما أجود، لأنهما جميعا عن النبي صلى الله عليه وسلم"(٥).
(٢) - منجد المقرئين لابن الجزري ٧٠.
(٣) - يمكن الرجوع إلى إنكار بعض الأئمة الترجيح بينها في البرهان ١/٣٤٠ والإتقان ١/٨٣.
(٤) - يمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب "دفاعا عن القراءات المتواترة في مواجهة الطبري المفسر "للدكتور لبيب السعيد، وهو كتاب صغير في ١٥٠ صفحة.
(٥) - نقله الزركشي في الإتقان ١/٣٤٠ – والسيوطي في الإتقان ١/٨٣.
٣- وأما ثالث من عرفنا من أساتذته فهو الإمام محمد بن يوسف بن علي أبو حيان الغرناطي النفزي أثير الدين (٦٥٤-٧٤٥) نزيل القاهرة.
عني كثير ممن رحل إلى الحج من المغاربة والأندلسيين بالأخذ عنه بين قراءة وسماع وإجازة، منهم الوادي آشي صاحب "البرنامج"(١) والشيخ خالد البلوي الذي قرأ عليه بعض القرءان بالسبع، وبقراءة يعقوب(٢)، وأبو عبد الله بن آجروم الذي لقيه بالقاهرة وسمع منه وأجازه في جميع مروياته ومؤلفاته(٣)، ثم ابنه أبو المكارم محمد بن محمد المدعو بمنديل الذي أجاز له أبو حيان أيضا إجارة عامه في جميع تآليفه"(٤).
مؤلفاته وآثاره:
وعلى الرغم من كونه اعتبط وهو ما يزال في مقتبل العمر، فإنه ترك من الآثار القيمة في كل من القراءة والعربية ما لم يتركه المعمرون، سواء من حيث القيمة العلمية والعمق في المادة، أم من حيث التنوع والكم، مما يدل على خصب في القريحة ونبوغ خاص قل أن يوجد مثله في مثل السن التي ألف فيها، هذا إلى جانب انقطاعه للتأديب والتدريس وتعدد مجالات نشاطه كما وصفه أبو الوليد إسماعيل ابن الأحمر في ترجمة ولده منديل المذكور في قوله:
"وأبوه أبو عبد الله محمد كان فقيها متقنا، أستاذا نحويا لغويا، مقرئا، شاعرا، بصيرا بالقراءات، ولم يكن في أهل فاس في وقته أعرف منه بالنحو"(٥).
(٢) - ينظر في ذلك ديوان رحلته "تاج المفرق في تحلية علماء المشرق" ١/٢٢٧-٢٣٠.
(٣) - تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(٤) - ترجمته في فهرسة السراج وهو من تلاميذه، وقد ذكر أنه رحل لأداء فريضة الحج سنة ٧٤١- فهرسة السراج مجلد١ لوحة ٣١٣. – وله ترجمة في نيل الابتهاج ٣٤٧ وشجرة النور الزكية وجذوة الاقتباس ١/٢٣٣-٢٣٤.
(٥) - نثير الجمان لابن الأحمر المنشور باسم "أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن" ٤١٦-٤١٧.