وانطلاقا من مبدأ الرواية عن الشيوخ المعتبرين، كان نافع لا يبالي أن توافق مقتضياتها مذاهب الفقهاء أو أن تخالفهم، وعلى مثل منهجه كان قراء المدينة في ذلك، كما حكى عنهم إسحاق المسيبي في شأن البسملة في الصلاة قال: "كنا نقرأ لسم الله الرحمن الرحيم أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة، وبين السورتين، في العرض والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة ـ قال ـ وفقهاء المدينة لا يفعلون ذلك"(١).
ولعل مرجع الخلاف بينهم إلى كون القراء كانوا يسيرون على سنن المشايخ قبلهم الذين تلقوا القراءة عن الصحابة، فكانوا أوفياء للرواية كما تلقوها، لا يفرقون بن حال وحال، في العرض أو الصلاة أو غير ذلك، بينما نظر الفقهاء ممن لا يبسمل في الصلاة، اما إلى اختلاف الآثار في المسألة ورجحان الترك عندهم على غيره(٢)، واما إلى اعتبار عمل الناس بالمدينة، فأصبحت القضية موضع اجتهاد وترجيح ربما تتكافأ فيه الأدلة، ولا يبقى المخرج إلا بالرجوع في ذلك إلى المتواتر عند القراء، ولذا قيل ان مالكا ـ رحمه الله ـ لما سأل نافعا عن البسملة فقال: السنة الجهر بها، سلم إليه، وقال: كل علم يسأل عنه أهله"(٣)، وفي رواية قال: سلوا عن كل علم أهله، ونافع إمام الناس في القراءة"(٤).
ثانيا: اشتراطه توافر عنصري الثقة والضبط في الرواة مع السلامة من كافة الخوارم
(٢) - يمكن الرجوع في اختلاف الآثار في ذلك إلى مصنف الحافظ عبد الرزاق ٢/٨٨-٨٩ فقد أفاض في ذلك. وإلى كتاب الانصاف فيما بين العلماء في البسملة من الاختلاف لابن عبد البر النمري – الرسائل المنيرية ١/٢٥٤.
(٣) - النشر ١/٢٧١- ومنجد المقرئين – ولطائف الإشارات للقسطلاني ١/٤١.
(٤) - سير أعلام النبلاء ٧/٣٧٧. ومعرفة القراء ١/٩٠.
فإذا بها الأبيات نفسها المذكورة في شرح ابن القاضي دون زيادة، مما كاد يقطع أملي في الوقوف عليها، ثم تجدد هذا الأمل حين رجعت إلى السلسلة التي ألفها الشيخ العلامة عبد الله كنون ـ رحمه الله ـ في "ذكريات مشاهير رجال المغرب" فإذا بي أجده في العدد ٢٤ الذي خص ابن آجروم به يذكر هذه الأرجوزة في مؤلفاته فيورد تاريخ فراغ الناظم منها ثم يسوق خمسة أبيات من أولها مما يقطع بأنه وقف عليها في نصها الكامل، لأن التاريخ المتعلق بنظمها إنما أورده الناظم في آخرها، فتبين لي أن الشيخ قد وقف منها على أصل كنت على أمل أن أتصل به في شأنه فتوفي قبل تمكني من ذلك فضاع مني آخر خيوط الأمل، ثم مضى على ذلك نحو خمس سنوات، وإذا ببعض أصدقائي الذين طالما شكوت إليهم بثي في شأن الأرجوزة يفاجئني بها مصورة عن أصل مخطوط بالخزانة الصبيحية بسلا في مجموع بها يحمل رقم ٣٠٦، وليس للأرجوزة في المخطوط عنوان بارز ولا شيء يرشد إلى موضوعها أو يعرف بصاحبها، إلا ما يفهمه القارئ المتعجل من مطالعها من تسمية ناظمها لنفسه بما زاد في إبهامها لدى غير الباحث المتخصص، وهنا حمدت الله حمدا كثيرا على هذا الفتح الجديد، وذكرت قول الشاطبي رحمه الله في عقيلته مدافعا عن الإمام مالك في قوله عن مصحف عثمان: إنه ضاع:
"إذ لم يقل مالك لاحت مهالكه... ما لا يفوت فيرجى طال أو قصرا(١)
وهذا نص أرجوزة "البارع" أثبته اعتمادا على هذه النسخة التي كنت عند إنجاز البحث لا أعلم لها ثانية في الخزائن الرسمية ولا غيرها:
يقول من عفو الإله راجي... وعونه محمد الصنهاجي
الله نحمد الذي هدانا... ومن أن علمنا القرآنا
وخصنا بأكرم البريئة... محمد وخاتم النبوءة
صلى عليه الله من رسول... وصحبه طرا ذوي التفضيل