وواضح من خلال النظر إلى كون القراءتين المذكورتين متواترتين معا عن النبي ـ ﷺ ـ عند القراء السبعة وغيرهم، أن المراد بكون مروان أول من قرأها، أو "أحدثها" أنه أول من أعلن بها في قراءة الفاتحة في الصلاة الرسمية بالمسجد النبوي، مخالفا بذلك ما كان شائعا في العمل قبله من قراءة الأئمة منذ زمن النبوة، بلفظ "مالك"، كما أخرجه أبو داود في سننه قال: "سمعت أحمد ـ يعني ابن حنبل ـ يقول: "القراءة القديمة" مالك يوم الدين"(١).
وإلا فإن القراءة الأخرى معروفة مشهورة، وقد قرأ بها "من الصحابة زيد وأبو الدرداء وابن عمر والمسور وكثير من الصحابة والتابعين"(٢).
ومهما يكن فإن مروان كان كما يقول عنه القاضي أبو بكر بن العربي "رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة وفقهاء المسلمين"(٣)، إلا أن اقتران عهد ولايته بأحداث كبار كانت في زمن نافع ما تزال حية في الأذهان(٤)، اقتضى من نافع تجنب بعض ما قد ينفرد به في الرواية لحروف القرآن، توثيقا للأمر، واحتياطا للقرآن، لا طعنا في مروان وعدالته(٥)، وهو محمول على ما ذكرناه له من التحري في الرواية والتثبت فيها، لا من قبيل الغمز والتجريح، ودليل ذلك روايته لما ذكرناه في "ملك يوم الدين"، وهي موافقة لما كان يقرأ به مروان، إلا أنها كانت قد أصبحت قراءة سائرة في عامة الأمصار.

(١) - سنن أبي داود ٢/٣٦١.
(٢) - البحر المحيط ١/١٩-٢٠.
(٣) - العواصم من القواصم لابن العربي ٨٩. تحقيق محب الدين الخطيب.
(٤) - من جملتها اقتران اسمه بالأحداث التي أدت إلى قتل عثمان بسبب مطالبة الثوار بتسليم مروان.
(٥) - ولي مروان فيما بعد الخلافة بالشام سنة ٦٥، وقد أخرج له في الحديث الستة غير مسلم كما ذكر الملا علي القارئ في شرح الشفاء لعياض ١/٤٢٢.

قرا لئلا ورشهم بالياء... كذا النسي مدغما واللائي
كاليا وقف باليا له وأسكنا... لام ليقضوا ليقطع أو ءاباؤنا
وليتمتعوا كذا وأخبر... ما كُرِّر استفهامه بآخر
في العنكبوت اعكس ونمل وأهب... بالبا وقالون بهمز استحب
سيئت وسيء اقرأه بالإشمام... وأخف تامنا وفي استفهام
رأيت مع ها أنتم قد سهلا... وكم خليلي لورش أبدلا
والهاء من همز بذاك مبدلة... أو هاء تنبيه فهاك مسألة
وهذه جامعة المنافع... لأجل ذا سيمتها بالبارع
أكملتها في رمضان الأعظم... عشرين منه ذي المعاد الأكرم
سنة ست معها ستمائة... ثمت تسعين بخير منبئة
فالحمد لله العظيم الطول... أهل الثناء وهو أهل الفضل
وبعد صلى الله ربي سرمدا... على النبي الهاشمي أحمدا
هذه أرجوزة "البارع" لابي عبد الله بن آجروم الصنهاجي، وتقع في ١٢٢ بيتا(١)، وقد استوفى فيها جملة مسائل الخلاف بين ورش وقالون عن نافع أصولا وفرشا، ممهدا بذلك الطريق لكل من نظم بعده في هاتين الروايتين شأن الرواد في سائر العلوم والفنون، كل هذا مع تمام الإيجاز وحسن السبك والاختصار.
أصحابه:
وقد اشتهر ابن آجروم رحمه الله بعلم النحو أكثر من شهرته بعلم القراءات، ولذلك لم نر كبير فائدة في التعريف بأصحابه الذين وقفت على أسماء جملة منهم، ومن أهمهم ولده أبو المكارم محمد منديل (ت ٧٧٢)(٢)، وابنه الثاني عبد الله الذي ألف مقدمته "الأجرومية في النحو" برسمه(٣)، وأبو عبد الله الخراز التالي، وأبو محمد بن مسلم شارح الدرر اللوامع الآتي، وأبو محمد الوانغيلي الضرير(٤) وأبو عبد الله بن عمر اللخمي الآتي وسواهم كثير.
(١) - جاء في فهرسة مخطوطات خزانة عبد الله كنون ص ٣١٢ أن أبيات البارع ١٢٥.
(٢) - كان ابنه منديل هذا من قراء عصره وأدبائهم وله إجازة من أبي حيان كأبيه.
(٣) - السلوة ٢/١١٣.
(٤) - ترجمته في السلوة ٢/١١٣ وجذوة الاقتباس ٢/٢٢٤ ترجمة ٤٤٦.


الصفحة التالية
Icon