وهذا المبدأ مبدأ عام مشترك بين عامة أئمة الأمصار، على تفاوت بينهم في درجة الاستمساك به، وهو عند جمهورهم أحد الأركان الثلاثة المعتبرة في القراءة المقبولة، فالالتزام بخط المصحف هو من السمات الأساسية في قراءة الجماعة، وفي طليعتها قراءات القراء السبعة، مع تسامحهم في القدر اليسير من المخالفة في الحرف بعد الحرف مما يحتمله الرسم تحقيقا أو تقديرا، وقد مثل لذلك ابن الجزري في كتاب النشر أمثلة وافية(١). وذكر أن المخالفة اليسيرة في ذلك مغتفرة، وأن الأمر فيها "قريب يرجع إلى معنى واحد، وتمشيه صحة القراءة وشهرتها وتلقيها بالقبول، وذلك بخلاف زيادة كلمة أو نقصانها وتقديمها وتأخيرها، حتى لو كانت حرفا واحدا من حروف المعاني، فإن حكمه حكم الكلمة، لا يسوغ مخالفة الرسم فيه"(٢).
يقول أبو عبيد مقررا لهذا المبدأ الذي التزمه جمهور الأئمة:
"وإنما نرى القراء عرضوا على أهل المعرفة بها، ثم تمسكوا بما علموا منها مخافة أن يرفعوا عن ما بين اللوحين بزيادة أو نقصان، وبهذا تركوا سائر القراءات التي تخالف الكتاب، ولم يلتفتوا إلى مذاهب العربية فيها إذا خالف ذلك خط المصحف، وإن كانت العربية فيه أظهر بيانا، ورأوا تتبع حروف المصاحف وحفظها عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها"(٣).
وقد جاء عن الإمام الكسائي من رعايته لمبدأ الالتزام برسم المصحف الإمام قوله:
"السين في "الصراط" أسير في كلام العرب، ولكن أقرأ بالصاد، أتبع الكتاب، الكتاب بالصاد"(٤).

(١) - النشر في القراءات العشر ١/١٢-١٣.
(٢) - النشر في القراءات العشر ١/١٢-١٣.
(٣) - فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (مخطوط) ينقل عنه غانم قدوري في "رسم المصحف"٦٣٢.
(٤) - السبعة لابن مجاهد ١٠٧.

قراءة الإمام نافع عند المغاربة
من رواية أبي سعيد ورش
( مدرسة أبي عبد الله الخراز في قراءة نافع ورسمها وضبطها وامتدادات مدرسة ابن القصاب من خلالها في أراجيزه في الموضوع ومؤلفاته وما قام حولها في نشاط علمي (
مقدمة:
كان لمدرسة أبي عبد الله بن القصاب مجال ثان غير مجال القراءة وأصول الأداء تجلى في توجه أبي عبد الله الخراز إلى ناحية أخرى كانت في زمنه ما تزال في حاجة إلى جهود متضافرة لتمييز ما يتعلق بالرسم والضبط الخاصين بقراءة نافع استكمالا لما أخذت به المدرسة المغربية من الاختصاص في هذه القراءة، وسعيا نحو مزيد من التوثيق للأوضاع الرسمية والضبطية المتعلقة بها بعد أن كانت تدرس ضمن الإطار العام الذي يشمل جميع القراءات الأخرى التي يحتملها رسم المصحف الأمام من سبعة وغيرها.
الفصل الأول:
ترجمة أبي عبد الله الخراز وشيوخه في العلم وآثاره ومنزلته العلمية.
ترجمته:
أقدم من ترجم لأبي عبد الله الخراز هو صاحبه وأول من شرح أرجوزته الشهيرة في الرسم أبو محمد عبد الله بن عمر المعروف بابن آجطا، فقال في شرحه المذكور: هو "الأستاذ المقري" المجود المحقق المعلم لكتاب الله العزيز أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الأموي الشريشي الشهير بالخراز، ثم قال:
"هكذا في نسخته التي كتبها بيده وانتسخت أنا منها هذه النسخة التي عندي، وقرأتها عليه وسمعها مني وأجازني فيها ـ عفا الله عنه ـ وكنت أردت أن أذكر في هذا الموضوع تاريخ مولده وتاريخ وفاته فلم أجد ذلك محققا عند من أثق به(١)، وذكر لي ذلك عند ولده فلم أجده في هذا الوقت، وذكر أنه مسافر غائب عن مدينة فاس".
(١) - وسبب ذلك بعد العهد نسبيا بين وقت بداية كتابه الشرح في حياة المترجم ووقت إتمامه سنة ٧٤٤هـ كما ذكر في أوله، أي بعد وفاة المترجم بستة وعشرين عاما.


الصفحة التالية
Icon