بمثل هذا الحرص كان علماء السلف ينظرون إلى مطابقة المرسوم في مصحف الجماعة، وكان أئمة الإقراء يحافظون معه على القراءة بما تواتر عندهم من الحروف مما فيه مخالفة يسيرة يحاولون المواءمة بينها وبين المرسوم، وعلى هذا النهج سلك نافع نفسه في عنصر مطابقة القراءة للرسم، وسوف نرى أنه كان في طليعة علماء هذا الشأن الذين وصفوا مصاحف الأمصار، ودلوا على كيفية الجمع بين مقتضيات القراءة والأداء لما تواتر من الحروف، وبين مقتضى احترام مبدأ الرسم وما درج عليه السلف، دون مجاوزة أو إلغاء.
خامسا: اشتراطه أن يكون الوجه المختار في القراءة فصيحا ومأنوسا وبعيدا عن التقعر والتكلف والتأويل البعيد
لقد سَاعد نافعا في أخذه بهذا العنصر المناخ العلمي العام الذي نشأ فيه، حيث رأينا تخرجه على نوابغ علماء المدينة المنورة، وأتيح له أن يجلس إلى كبار فصحاء زمانه، من مشيخة قريش والأنصار وسواهم من أبناء الصحابة وبلغاء القبائل، الذين كان لهم في اللسن والبيان صيت ذائع، فلهذا كان لابد أن تجيء اختياراته في القراءة والأداء جارية على مذاهب الفصحاء من الحجازيين، سائرة على المشهور المألوف من أساليب العرب في الاستعمال، مما جعل حلقته في القراءة مقصدا لطائفة ممن عرفوا بالبراعة في الأدب والرواية والبحث اللغوي، وكان وجود أمثالهم في حلقته يقتضي منه بلا شك مزيدا من الأخذ بالحيطة والحذر في التزام أفصح الوجوه وأسيرها في اللغة، وأجدرها بالقبول في القراءة، وأيسرها في الأداء، فكان على وجه العموم لا يخالف المألوف المأنوس من لغات الحجازيين.
وسيأتي لنا أنه كان يفاوض ابن بري في معاني أبياته وهو يكتب هذا الشرح، وأنه أهدى إليه الشرح المذكور بعد فراغه منه فكتب له عليه طررا.
هذا كل ما تأتى لنا الوقوف عليه فيما يتعلق بمشيخته، ومنه يتبين صدق ما ذهب إليه عامة الشراح في قولهم: إن "عمدته على أبي عبد الله ابن القصاب"، ولذلك أدرجناه في مدرسته على الرغم من أنه في الحقيقة قد برز تبريزا لا يشاركه فيه أحد من أهل عصره ولا من بعدهم في مجالي الرسم والضبط، وإن كان لم يصرح في ذلك باسم أحد من شيوخه ممن تخرج في بحث ذلك عليهم، واكتفى – كما سيأتي – بذكر مصادره المكتوبة دون غيرها.
على أننا نجد في شرحه على الدرر اللوامع بعض الإشارات التي تدل على اعتداده بمدرسة شيخه دون غيرها، ولذلك جاء أكثر نقله عنه، ولم أقف له على تسمية أحد غيره ممن قرأ عليهم، وقد قال في باب الإمالة بعد أن ذكر الخلاف في كلمتي "هار" و"التورية":
"وبالفتح كان يأخذ شيخنا أبو عبد الله ـ رحمه الله ـ، وبالإمالة اليسيرة أخذ علينا غيره":
وقال عند قول ابن بري:

والخلف في وصلك ذكرى الدار ورققت في المذهب المختار
"فتبقى الراء في نفسها مرققة من أجل الكسرة وصلا ووقفا، وبه أخذ علينا شيخنا أبو عبد الله وغيره، وعليه العمل كما ذكر الناظم".
فهكذا يذكر أخذه عن ابن القصاب وعن غيره ولكنه لا يسمي سواه اعتدادا به.
مؤلفاته وآثاره:
تعددت مؤلفات أبي عبد الله الخراز، إلا أن الملاحظ أنها توجهت جميعها إلى خدمة قراءة نافع نظما ونثرا، حتى قيل: "كان لا يحسن غيرها"(١).
وقد ذكر صاحبه ابن آجطا بعد ذكر ما عرفه من مؤلفاته أنه "فتح له في التأليف وسهل عليه نظمه ونثره"، وذكر له من المؤلفات:
١. مورد الظمآن في الرسم (أرجوزة).
٢. عمدة البيان في الضبط (أرجوزة).
(١) - لا شك أن المراد بهذا القول التنويه باختصاصه فيها رسما وأداء وليس المراد انتقاصه.


الصفحة التالية
Icon