وقد كان صاحبه الراوية الأصمعي ـ وهو من هو في هذا الشأن ـ لا يكاد يمر به على منحى من مناحي اللغة في القراءة والأداء، إلا استوقفه في شأنه ليسأله، فكان الشيخ ربما يحيله على ما يعرفه من الاستعمالات الفاشية في العربية عند أهلها، ليتحرى منها ما هو ما أوجه وأفصح، وذلك فيما تكلمت به الفصحاء باكثر من وجه، وجرى القراء فيه على مثل ذلك، وفي مثله يقول الأصمعي:
"سألت نافعا عن "البئر"(١)و"الذئب"(٢)، فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما"(٣).
فنلاحظ انه لم يلزمه بالهمز ولا بتركه، وإنما أحاله على علمه بما تكلمت به العرب، وكأنه يشير إلى جواز الأمرين مع إشعار الكلام بأنه كان يميل إلى التخفيف(٤)، وهو المذهب السائد في مثل ذلك عند الحجازيين كما جاء عن خلف بن هشام ـ فيما قدمنا في ترجمة ابن جندب ـ قال ـ:
"وقريش لا تهمز، ليس الهمز من لغتها، وإنما همزت بلغة القراء غير قريش من العرب"(٥).
وقال أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء: "العرب لا تنطق بهمزة ساكنة، إلا بنو تميم، فإنهم يهمزون، فيقولون "الذئب" و"الكأس" و"الرأس" "(٦).
(٢) - يعني في سورة يوسف الآيات ١٣-١٤-١٧.
(٣) - نقله الذهبي في معرفة القراء ١/٩١.
(٤) - وقد اختلفت الرواية عنه بالهمز والتخفيف – كما في السبعة لابن مجاهد ٤٣٨-٤٣٩.
(٥) - نقله ابن الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء ١/٢٩٣ وكذا ١/١٦٤.
(٦) - نفسه ١/١٦٦. وقد أشار إلى هذه الخصيصة في قراءة نافع وأهل المدينة الشاعر الحكيم أبو العلاء المعري في رسالة "الاغريض" بقوله في خطاب الوزير أبي القاسم الحسين بن علي المغربي "لأمدن صوتي بتلك الآلاء، مد الكوفي صوته في هؤلاء، وأخفف عن حضرة سيدنا الوزير الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من "النبر" " (صبح الأعشى للقلقشندي ١٤/٢٠٩).
٣. تأليف في الرسم مثل مورد الظمآن منثور لا منظوم قال ابن آجطا: رأيته وطالعته.
٤. شرح على الحصرية قال: أخبرني به رحمه الله.
٥. شرح على "البرية" مشهور معروف عند كثير من الناس به يقرأونها وهو المعروف ب "القصد النافع"(١). وقد استدرك عليه الإمام ابن عاشر فقال: "ولم يعد الشارح في جملة تأليف الناظم":
٦. شرح العقلية، وقد رأيت النقل عنه: لكن لم أعثر عليه"(٢).
ومما ينبغي أن نتوقف عنده هنا بقصد رفع الالتباس، ما يتعلق بمسمى (عمدة البيان)، فقد أشكل أمره على الإمام ابن عاشر، فقال في "فتح المنان" متعقبا لابن آجطا فيما ذكره حول مضمون الكتاب المذكور:
"عمدة البيان الذي رأيته للناظم إنما هو نظمه الرسمي الذي نظمه قبل" "مورد الظمآن" "وذيله بالضبط المتصل بمورد الظمآن اليوم، وعليه بني العدد المذكور في الذيل، وفيه يقول:
"سميته بعمدة البيان... في رسم ما قد خط في القرءان"(٣)
وبيان هذا الإشكال كما ذكر غير واحد من الشراح أن الخراز كان أولا قد وضع نظما في رسم المصحف وسماه "عمدة البيان" وهو النظم الذي ذكر ابن عاشر البيت المذكور منه، ثم ذيل عليه بأرجوزة في الضبط ولم يسمها باسم خاص إذ جعلها من تمام "عمدة البيان" الأصلية، وهي الأرجوزة التي ذكر ابن أجطا أنها في الضبط، فكان مجموع ذلك موافقا لما جاء في آخر أرجوزة الضبط من حيث العدد، وذلك في قوله:
عدته أربعة وعشرة... جاءت لخمسمائة ومقتفرة(٤).
(٢) - فتح المنان لابن عاشر – مقدمة التأليف
(٣) - نفسه.
(٤) - يعني متبعة.