ومن خلال هذا التقويم على لسان صاحب القراءة نفسه، ثم على لسان أصحابه وغيرهم، ندرك السمات العامة لاختياره، ونتبين معالمه الكبرى، وهي في مجملها ـ كما يبدو ـ منبثقة عن العناصر الخمسة التي سبق الحديث عنها، مما يفصح تمام الإفصاح عن مقومات منهجه الصارم وأسلوبه في الانتقاء والاختيار، كما نفذ خطواته بكل إحكام وانسجام، فجاءت منه في النهاية هذه القراءة "السنية" التي صارت إليها أهل بلده العامة منهم والخاصة"(١)، وشهدوا له بمقتضى هذا الأخذ بالإمامة المطلقة فيها لا ينازعه فيها منازع.
وننتهي من هذا إلى نتيجة نسعى بالبحث إلى بلوغها، هي تمثلنا لأصول منهجه في الاختيار، وتعرفنا على مقوماته، وإدراكنا لمجالي إمامته في قراءة بلده، واستقلال شخصيته فيها فيما أخذ به من حروف واختيارات، بصورة رشحته عند علماء هذا الشأن ليوضع اسمه بين فحول أئمة القراء وأساتذة الإقراء، ومكنته من انتزاع الاعتراف له بذلك في مصره وعصره وفي غير مصره وعصره، كما أتاحت له أن يستقل بمنصب إمامة الإقراء في حياة أكابر شيوخه، وأن يستقل عنهم في كثير مما قرأ به من حروف، وربما خالف في كثير منها معهم نظراءه من السبعة أئمة الأمصار، وهذه أمثلة من تفرده نقتصر عليها للاختصار، مما تفرد به في سورة البقرة وحدها.
ـ نماذج من مخالفته للسبعة وغيرهم في سورة البقرة
ـ فمن ذلك قراءته لفظ "النبيء" "والنبوة" "والأنبياء" ومنه في البقرة "ويقتلون النبيئين" فهمزها وحده ولم يهمزها غيره من السبعة(٢).
(٢) - السبعة في القراءات ١٥٧ – والكشف لمكي ١/٣٤٢-٣٤٣ – والكافي لابن شريح ٥١. وتحبير التيسير ٨٨.
وجاء قبل همزة مختلفا
وفي صراط والصراط وردا
سواء إن شدد أو إن نبرا
وخلف سوءات وثبت نحسات
كيف أتى وأغفلوا فمالئون
إلا الذي أذكره منصوصا
وذكرها حيث يحل واقع
بالحذف مختصا على ما ظهرا
إذ كثر المجموع(١) بالحذف أتت
وإنما قلنا الذي ترددا
فالفاتحين حذفوا والحامدون
والحاسبين الغافرين الخالفين
إلا التي قدمتهن ذكرا
سالمة إن قلت أو إن كثرت
جريا على العادة منهم واقتدا
والماهدون الراشدون الزارعون
وغيرها من نحوها كسافلين
وأحرفا آتي بهن ذكرى
سورة البقرة
وحذفوا ذلك ثم الأبصار... رضاعة وواحدا والأنهار
ثم كتابا غير ثاني الحجر... والكهف ثم النمل الأولى فادر
ثم "لكل أجل كتاب"(٢)... وحذف الأزواج والأبواب
غشاوة وراعنا والطغيان... صاعقة صواعق والعدوان
حيث يخادعون والمعاهدة... وحيث عاهدت وكيف والدة
أموات إدرأتم والبرهان... فعل الجهاد هكذا والإحسان
ونحو يا قوم وهؤلاء... مما لتنبيه وللنداء
هاتوا وهاؤم بثبت رسما... إذ ليب تنبيه بهاء فيهما
شفاعة شعائر أصابع... رهان أصحاب وقل منافع
بالحذف ثم ما أتى من بعد لام... نحو ملاقوه ونحو علام
والآن غير الجن قل وأغفلت... بعض مواضع فما إن ذكرت
تلاوة لاهية فلانا... ولائم ولازب وبانا
ما بين لامين جميعا حذف... نحو الضللة وجاء الخلف
في لفظ كاتب وفي يضاعف... وحذف الشيطان لا مخالف
نكالا المنكور قل أعناب... كيف أتى ميثاق الألباب
وبعد ياء من خطايا حذفوا... وحذفهم ما قبلها مختلف
وفي الذي ثني ليس طرفا... نحو يعلمان خلف، واحذفا
من بعد نون لضمير المخبر... حشوا كآتيناهم فادكر
وكيف والدين والنصارى... ثم يتامى صالح أسارى
ثم مساكنكم الأموال... تجارة أحاطت الأعمال
كذلك في سبحان جاء الحذف... لكن قل سبحان فيه الخلف
واحذف أصابتهم مع الصابينا... فعل القتال وكذا الصابونا
ثم تفادوهم وحيث الإيمان... كذا المساكين وكيف الإخوان
(٢) - الآية ٣٨ من سورة الرعد.