وكان نافع إلى جانب ذلك ـ كما قيل عنه ـ "عالما بوجوه القراءات، متبعا لآثار الأئمة الماضين ببلده"(١)، وكان احتكاكه الدائم بالقراء، ومراسه الطويل للإقراء، قد وسع من مداركه مع الزمن، ونمى من معرفته، وأغنى من خبرته باللغات والأساليب التي تكلمت بها العرب الفصحاء في حواضرها وبواديها، وقرأت بها القراء في الأمصار، فكان يتعامل مع أصحابه والعارضين عليه من هذا الأفق الرفيع والمستوى الخصب، الذي يتقبل بصدر رحب لهجة الراوي وروايته، طالما أنها لا تجافي الفصاحة المطلوبة في القراءة، ولا تصادم النقل الصحيح، وانطلاقا من هذا المبدأ لم يكن يجترئ على رد قراءة لغيره، أو يتعصب لاختياره، بل كان "يسهل القرآن لمن قرأ عليه، إلا أن يقول له إنسان: أريد قراءتك"(٢).
ولقد فوجئ به أحد تلامذته من المصريين يأخذ بهذا المنهج حينما رحل إليه، قال معلى بن دحية:
"سافرت بكتاب الليث(٣)إلى نافع لأقرأ عليه، فوجدته يقرئ الناس بجميع القراءات، فقلت له: يا أبا رؤيم ما هذا؟ فقال لي: سبحان الله، أأحرم ثواب القرآن؟ أنا أقرئ الناس بجميع القراءات، حتى إذا كان من يريد حرفي أقرأته به"(٤).
ومعنى هذا أنه كان يترك القارئ يقرأ عليه بما اعتاده من الوجوه تيسيرا عليه، فتكون قراءته عليه بذلك رواية على سبيل الإقرار، لا على سبيل الاختيار، وبذلك تختلف الروايات عنه باختلاف العارضين.

(١) - السبعة لابن مجاهد ٥٤.
(٢) - معرفة القراء الكبار للذهبي ١/٩٠-٩١.
(٣) - هو الليث بن سعد الفهمي سيأتي في أصحاب نافع.
(٤) - نقله الونشريسي في المعيار ١٢/١٠٥ عن الإمام أبي عمرو الداني، ومثله في معرفة القراء ١/١٣٢-١٣٣.

وابن نجاح قال فيها بالصريح
كلمة هنا بتاء في الصحيح
هذا تمام نظم رسم الخط
وها أنا أتبعه بالضبط.
هذا هو النص الكامل لأرجوزة الرسم الأصلية التي سماها أبو عبد الله الخراز باسم "عمدة البيان" قبل أن ينظم بدلها "مورد الظمآن"، وكانت في الأصل – كما قدمنا – موصولة بقسم الضبط الذي ألحقه الناظم بالمورد فيما بعد، فمجموع أبيات العمدة ٣٦٠ بيتا، ومجموع الأبيات المتعلقة بالضبط ١٥٤ بيتا، ومجموع ذلك كما كان في النظم الأصلي = ٥١٤ بيتا، وهذا العدد هو الذي يعنيه بقوله في آخر قسم الضبط:
عدته أربعة وعشرة... جاءت لخمسمائة مقتفرة
الفصل الثالث:
أرجوزته الثانية المعروفة ب "مورد الظمآن"
(عرض موجز لمحتوياتها).
استهل أبو عبد الله الخراز أرجوزته "مورد الظمآن" بهذه الديباجة التي تمتاز بجمال الصياغة وحسن السبك فقال:
الحمد لله العظيم المنن... ذو مرسل الرسل بأهدى سنن
ليبلغوا الدعوة للعباد... ويوضحوا مهايع الرشاد
وختم الدعوة والنبوءة... بخير مرسل إلى البريئة
محمد ذي الشرف الأثيل... صلى عليه الله من رسول
وآله وصبحه الأعلام... ما انصدع الفجر عن الإظلام
ثم تطرق لبيان غرضه من هذا الرجز بذكر أصل الرسم وأنه علم مأثور عن الخلفاء الراشدين الذين تولوا جمع القرءان وكتابة المصحف الإمام: أبي بكر وعمر وعثمان، ولذلك وجب على الأمة اقتفاء مرسوم ما أصلوه، واتباع آثارهم فيما كتبوه، على الوجه الذي اختاروه، دون تصرف فيه بزيادة أو نقصان.
ثم ذكر أن علماء هذا الشأن من السلف والخلف وضعوا في وصف طريقتهم في ذلك ومنهاجهم كتبا مشهورة منها هذه التي أشار إليها بقوله:
أجلها – فاعلم – كتاب "المقنع"... فقد أتى فيه بنص مقنع
والشاطبي جاء في "العقيلة"... به، وزاد أحرفا قليلة
وذكر الشيخ أبو داودا... رسما ب "تنزيل" له مزيدا


الصفحة التالية
Icon