بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه، ولاسيما فيما يرجع إلى طرق الأداء التي تخضع كثيرا لعادة القارئ في النطق بالكلمات في لهجته، فيما يتعلق بالهمز والتخفيف والفتح والإمالة والإظهار والإدغام ونحو ذلك، إذ كان أئمة القراء لا يأخذون القارئ بما قد لا يقوى عليه ولا يطوع به لسانه في الأداء، سيرا مع ما كان يسلكه أهل الفصاحة من التوسع في اللغة ووجوهها، والإبقاء على قدر من المرونة فبها، بشرط الابتعاد عن مظاهر التقعر والتكلف البعيد، فد حكى أبو الفتح بن جني من مذاهب العرب "أن الفصيح منهم قد يتكلم باللغة غيرها أقوى في القياس عنده منها.. قال: منها ما حدثنا به أبو علي(١)ـ رحمه الله ـ قال أبو بكر(٢)عن أبي العباس(٣)أن عمارة(٤)كان يقرأ "ولا الليل سابق النهار"(٥)بالنصب(٦)قال أبو العباس: فقلت له ما أردت؟ فقال: أردت "سابق النهار"(٧)قال: فقلت: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن"(٨).

(١) - هو شيخه أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي صاحب "الإيضاح في النحو" و"الحجة في علل القراءات السبع" توفي سنة ٣٧٧. ترجمته في نزهة الألباء ٣١٥-٣١٧ رقم ١٢٤ – وغاية النهاية ١/٢٠٦ رقم ٩٥١.
(٢) - أبو بكر محمد بن السري البغدادي المعروف بابن السراج النحوي من أصحاب المبرد توفي سنة ٣١٦ هـ. ترجمته في تاريخ بغداد للخطيب ٥/٣١٩ رقم ٢٨٤٢.- ونزهة الألباء ٢٤٩-٢٥٠.
(٣) - هو محمد بن يزيد المبرد.
(٤) - هو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية التميمي الشاعر الأموي المعروف.
(٥) - بترك تنوين "سابق" ونصب "النهار على المفعولية. ذكرها له ابن خالويه في "مختصر الشواذ" ١٢٥.
(٦) - سورة يس الآية رقم ٣٩.
(٧) - يعني بتنوين "سابق" ونصب "النهار".
(٨) - الخصائص لأبي الفتح بن جني ١/١٢٥ – وكذا ١/٢٧٢-٢٧٣ تحقيق محمد علي النجار ط ٢ دار الهدى بيروت.

فساق الحذف المتفق عليه وما استثني منه فأثبت فيه الألف وما اتفق على إثباته بسبب قلة استعماله فقال:
وما أتى وهو لا يستعمل... فألف فيه جميعا يجعل
كقوله سبحانه طالوت... ياجوج ماجوج وفي جالوت
وهكذا تتبع باقي سور القرآن الكريم على هذه الشاكلة، ثم انتقل إلى ذكر الياءات المحذوفة من الرسم فقال:
القول فيما سلبوه الياء... بكسرة من قبلها اكتفاء
والياء تحذف من الكلام... زائدة وفي محل اللام
فاللام "يوت الله" ثم "المتعال"... "والداع" مع "يات" بهود ثم صل
ثم انتقل بعد إتمام مسائل الباب إلى ذكر الواوات المحذوفة أيضا في نحو "يدع الداعي" و"يمح الله"، ثم ذكر بعدها اللامات المحذوفة اختصارا في مثل "اليل" و"الذي" و"التي"، ثم انتقل إلى مبحث تصوير الهمز وعرض حالاته المختلفة في الابتداء والوسط والطرف، وصدر له بقوله:
وهاك حكم الهمز في المرسوم... وضبطه بالسائر المعلوم
فأول بألف يصور... وما يزاد قبل لا يعتبر
نحو بأن وسألقي وفإن... وبمراد الوصل بالياء لئن
ثم انتقل إلى ذكر الياءات الزوائد في الخط والواوات والألفات فقال:
وهاك ما زيد ببعض أحرف... من واو أو من ياء أو من ألف
فمائة ومائتين فارسمن... بألف للفرق مع لأاذبحن
ثم ذكر بعد هذا رسم الألفات المنقلبة عن ياء، ثم المنقلبة عن واو، ثم أردفها بباب حروف وردت بالفصل في رسمها على وفاق الأصل، ثم انتقل إلى ذكر التاء المبسوطة في الرسم، وبذكرها أنهى الأرجوزة، وآخر ما ذكر من ذلك قبل الختام قوله:
ومعصيت معا، وفي الأعراف... كلمة جاءت على خلاف(١)
فرجح التنزيل فيها الهاء... ومقنع حكاهما سواء
قد انتهى والحمد لله على... ما منّ من إنعامه وأكملا
في صفر سنة إحدى عشرة... من بعد سبعمائة للهجرة(٢)
(١) - بهذه المسألة ختم أيضا في عمدة البيان، وهي قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا".
(٢) - بيننا اليوم وبين زمن نظم الأرجوزة مثل ما كان بين ناظمها وبين بدء التاريخ الهجري.


الصفحة التالية
Icon