وانما يرجع ذلك بعد الرواية والنقل إلى اختلاف الأصوات، وتعدد اللغات، فلذلك رسم الصحابة بعضه بالصاد(١)وباقيه بالسين، وذلك مألوف في اللغة والاستعمال مما يسميه علماء اللسان بـ"تداخل اللغات"(٢). وهذا تفسير كثير من الاختلاف في حروف القراءة وأصول الأداء، مثل الاختلاف في "الصراط" وصراط و"المصيطرون" و"يصدر الرعاء"(٣)ونحوها، ومثل الاختلاف في أحوال الهمز وتخفيفه بالابدال أو التسهيل أو النقل أو الحذف، ومثل الفتح والتقليل والإمالة، تبعا لما اعتاده لسان القارئ ودرج عليه في قراءته، وفي القراء يومئذ من لا يستقيم لسانه البتة بالنطق بغير ما درب على استعماله في لسانه من الحروف واللغات.
وقد حكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: "قرأ أعرابي بالحرم "طيبي لهم وحسن مئاب"(٤)فقلت: "طوبى" فقال: "طيبي"، فلما طال علي قلت: "طو، طو" فقال: "طي، طي" ولم يفارق الأعرابي لغته إلى متابعة أبي حاتم"(٥).
وانتهاجا لهذا المهيع في القراءة نقل قالون عن نافع "أن نافعا لم يكن يعيب رفع ميم الجمع ـ يعني في مثل إليهم وعليهم كما يقرأ بذلك أهل مكة ـ(٦)، قال ابن مجاهد: "فهذا يدل على أن قراءته كانت بالإسكان"(٧).

(١) - رسمت "وبيصط" في سورة البقرة بالصاد، وفي غيرها في سائر القرآن بالسين، وكذلك رسمها الصحابة في جميع مصاحف الأمصار. – المقنع لأبي عمرو الداني ٨٤.
(٢) - ينظر في أمثلة تداخل اللغات الاختلاف في لفظ "الصقر" بالصاد والسين والزاي – الخصائص لابن جني ١/٣٧٤.
(٣) - سورة القصص في الآية رقم ٢٣.
(٤) - سورة الرعد ٣٠.
(٥) - الخصائص ١/٣٨٤.
(٦) - يمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب السبعة لابن مجاهد ١٠٨.
(٧) - نفس المصدر والصفحة.

ثم ختم بخاتمة طويلة استغرقت ثلاثة وعشرين بيتا دعا فيها الناظر في عمله هذا إلى الإغضاء والمسامحة فيما قد يجد فيه من عيب أو قصور، لأنه لا يدعي الإحصاء، ولا يطلب الاستقصاء، ولأنه ليس ينبغي الاتصاف بالكمال إلا لربنا الكبير المتعال، قال:
وفوق كل من ذوي العلم عليم ومنتهى العلم إلى الله العظيم(١)
قيمة الأرجوزة "مورد الظمآن" بقسميها في الرسم والضبط وإشعاع مدرسة أبي عبد الله الخراز من خلالها والانتماء الفني لناظمها
قد اكتفينا في هذه الأرجوزة وقسم الضبط المتعلق بها باستعراض أهم أبوابهما ومباحثهما، ولم نورد نصهما الكامل كما فعلنا بالأرجوزة الأصلية المسماة بـ "عمده البيان"، نظرا لوجود الأرجوزتين المذكورتين في التداول، ولأنهما طبعتا أكثر من مرة سواء مع بعض الشروح المنشورة أم مستقلتين أم في بعض المجموعات من المتون.
ونريد هنا أن نتوقف مع القارئ الكريم عند أرجوزة "المورد" الحالية بقسميها: الرسم والضبط لنتتبع من خلالها إشعاع هذه المدرة المنبثقة عن مدرسة أبي عبد الله بن القصاب، وأن نحدد انتماءها الفني "المدرسي" وأن نقف بشكل خاص على أهميتها في قراءة ناقع وعلى الأخص في هذا الطور من تاريخ المدرسة المغربية في المغرب الأقصى بعد أن أخذت طريقها نحو إثبات الشخصية والتعبير عن الخصوصية التي تميزت بها شكلا ومضمونا عن المدارس التي تقدمتها في إفريقية والأندلس وبعد أن ظلت ردحا طويلا من الزمان لا تمثل إلا امتدادا لها أو صدى عابرا لا يحمل المياسم الفنية التي تميزه عن القواعد التي انطلق منها أو المناهل الثرة التي ظلت تمده بعطائها.
الفصل الرابع:
فضل أبي عبد الله الخراز على قراء قراءة نافع في المغرب.
(١) - هذا آخر بيت من قسم الضبط الذي ذيل به "مورد الظمآن" في صورته المعروفة اليوم.


الصفحة التالية
Icon