ويمكن الرجوع إلى مظاهر هذه المرونة في قراءة نافع واختلاف أصحابه عنه بالرجوع إلى ما ذكره عنه ابن مجاهد في كتاب السبعة في قراءة كلمات مثل "كفؤا"(١)و"هزؤا"(٢)و"جزءا"(٣)بأسكان أواسطها مع الهمز، أو تحريكها بالضم معه، أو اسكان بعضها وتحريك باقيها(٤)، وفي قراءة ألفاظ مثل "البيوت" و"الغيوب" و"العيون" و"جيوبهن" بضم الأول أو كسره في الجميع، أو بعضها دون بعض(٥)، ومثل ذلك في قراءة ما اجتمعت فيه همزتان من كلمة أو كلمتين(٦).
ومن المعلوم أن مجيء هذا عن نافع وأمثاله من الأئمة، ليس مرده إلى ضعف ضبط الرواة، إنما مرده إلى سعة الرصيد المتداول بين القراء في وجوه القراءة وأحوال الأداء، مما صح في الرواية وقرأ به السلف في مختلف الأمصار، وقرأ به الأئمة أو قرئ عليهم به فأقروه، باعتباره مظهرا من مظاهر الترخص في القراءة "بلحون العرب وأصواتها"(٧)، غير مفرقين بين حرف وحرف، طالما تحققت في القراءة به شرائط القبول الآنفة الذكر، فلم يكن نافع في ذلك إلا واحدا من أئمة المقرئين الذين اتسعت رواياتهم، ووقفوا على مختلف الحروف والروايات، فكانوا يقرأون منها بما يختارون، ويقبلون إلى جانب ذلك كل ما قرأ به غيرهم، على غرار ما جاء عن أبي عمرو بن العلاء إمام أهل البصرة في القراءة.
(٢) - كثيرة الورود في القرآن.
(٣) - سورة الزخرف الآية ١٤.
(٤) - السبعة لابن مجاهد ١٦٠.
(٥) - السبعة لابن مجاهد ١٧٨-١٧٩.
(٦) - ينظر في ذلك السبعة ١٣٨-١٤٠ – والتعريف للداني ٢٤٠-٢٤٢.
(٧) - ينظر تمام حديث "اقرأوا بلحون العرب وأصواتها" الحديث أخرجه أبو داود في سننه.
لإبراز مكانة أبي عبد الله الخراز في هذا الطور، والإبانة عن فضله الكبير على كل قارئ لهذه القراءة جاء بعد زمنه، لابد من إلقاء نظرة على ما بذل من جهد من لدن أئمة هذا الشأن قبله في المدرسة المغربية في هذا الاتجاه منذ عهد الأقطاب في المائة الخامسة وتلامذتهم الذين حصلوا علومهم وهذبوها وقدموها للناس.
لقد وقفنا في صدر هذا البحث على مدرسة الرسم في عهد التأسيس مع الغازي بن قيس وصاحبه حكم بن عمران بالأندلس، ثم معها في عهد التأصيل والنضج مع رائدها ومؤصلها الإمام الحافظ أبى عمرو الداني، زعيم "المدرسة الأثرية الاتباعية، ثم مع معالم هذه المدرسة وامتداداتها الفنية ممثلة في أبي داود سليمان بن نجاح صاحب "التبيين لهجاء مصحف أمير المؤمنين"، ومختصره "التنزيل" وذيله في الضبط، ثم في أبي الحسن البلنسي صاحب أرجوزة "المنصف في رسم المصحف"، ثم في أبي محمد القاسم بن فيره الشاطبي صاحب "عقيله أتراب القصائد في أسنى المقاصد"، وألممنا أيضا بذكر الإشعاع العلمي لهذه المدرسة وما تفرع عنها كما تمثل ذلك في الشروح والمختصرات والمنظومات التي قامت على تلك الآثار، وتبين لنا من خلال ذلك كله مدى استقلال رجال المدرسة الأثرية بهذا الفن رواية ودراية وتوجيها وتأليفا وجمعا وتيسيرا لقواعده ونظما لمسائله.