والذي يبدو أن هذا المستوى الثاني ـ وإن كان صحيحا ثابتا ـ فإنه ليس كالأول في قوة الانتساب إلى صاحب القراءة ـ كنافع أو غيره من الأئمة ـ، وإنما نسبته إلى الرواة أقوى وأوكد، والأمر فيه شبيه بالسنن الإقرارية التي ربما تكون في كثير من الأحيان من باب التيسير والرخصة، لا من باب الرغائب والعزائم المطلوبة.
وإنما أعني بانتسابها إلى الرواة أنها إما أن تكون اختيارات لهم أحرزت على تزكية الشيوخ لها بالعرض عليهم، وإما اختيارات عامة استجمعوها بالرواية وقرأوا بها وعرضوها على مشايخهم فأقروها كما سوف نرى ذلك عند أبي سعيد ورش في طريقة عرضه على نافع بعون الله.
هذا مع التنبيه على أمر مهم آخر ينبغي أن لا يفوتنا هنا، هو ما أشار إليه الإمام بدر الدين الزركشي نقلا عن بعض المتأخرين، وهو ما ذكره من أن "كل واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران وأكثر، وكل صحيح"(١).
ويشهد لصحة هذا بالنسبة لنافع ملاحظة الفروق الواضحة بين مشاهير الرواة عنه من أهل المدينة، كإسحاق المسيبي وإسماعيل بن جعفر الأنصاري وعيسى بن مينا قالون، وكلهم لزمه المدة المديدة، وسمع منه قراءته وعرضها عليه، إلا أن كل واحد منهم أخذ عنه على وفق اختيار معين فارق في كثير من جزئياته باقي أصحابه، ولعل جانبا من هذا التباين بين تلك الاختيارات يرجع إلى أخذ نافع بأكثر من اختيار مع الزمن، إلا أن كل واحد من العارضين عليه أخذ بما حضره أثناء القراءة عليه وهذا لا يعني انفصام كل العرى بين تلك الاختيارات والروايات المعزوة إليه، وإنما هو نوع من التنوع المميز لقراءته كما قدمنا، مما جعل بعض الأئمة يسمي قراءته "بز القراءات" لما فيها من التنوع.

(١) - البرهان في علوم القرآن ١/٢٢٧.

إلى غيرها من المختصرات التي انصبت على كتاب المقنع خاصة باعتباره أهم كتاب جامع تضمن مسائل الرسم المعززة بالآثار مما بوأه عند الأئمة المنزلة العالية التي لم يزاحمه عليها أثر بعده، وإن كان غيره قد زاد على ما فيه من أصول محررة وأطنب في ذلك كما فعل أبو داود في كتابي "التبيين" و"التنزيل"(١).
وحتى الشاطبي الذي انطلق في "العقيلة" من المقنع نفسه وجعل قصيدته ملخصا لمسائله لم يزد على إضافة حروف يسيرة ضمها إلى مسائل المقنع من كتب أبي عمرو الأخرى، فبقي المدار عنده وعند جميع من كتبوا في هذا الفن رسما وضبطا على أبى عمرو وكتابه الذي جعله كاسمه مقنعا في هذا الشأن، ولأنه اقتصر فيه على الثابت الموثق الذي تزكيه الرواية وتسنده الوثائق الخطية المكتوبة التي وقف عليها وأجرى عليها ما أجرى من دراسة ومقارنة.
مشروع أبي عبد الله الخراز ومميزاته والجديد فيه:
وجاء الإمام أبو عبد الله الخراز في أواخر المائة السابعة ليكون بمثابة خلاصة لعامة هذه الجهود التي بذلت في فني الرسم والضبط، وليكون معلمة بارزة في هذا الطور، إذ استطاع أن يبقى وفيا لمبادئ مدرسة أبي عمرو في ذلك وأن يضيف إلى عمل هذا الإمام الحافظ ما ثبت لديه من طريق أبي داود وطريق البلنسي والشاطبي وغيرهم، وأن يرقى بالبحث إلى مستوى من الفقه في مسائله واستنباط علله وتصنيف كل نوع منها تحت طائفة من الضوابط والقواعد الكلية التي وجد الرواد من السلف قد رتبوا اختياراتهم في الغالب عليها ونبهوا بالمصطلحات التي التزموا بها على رعايتهم لها، وهذا ما نبه عليه غير واحد ممن تحدثوا عن مكانة أبي عبد الله الخراز في هذا الطور، فقال العلامة ابن خلدون في سياق حديثه عن تطور مدرسة الرسم:
(١) - تقدم ذكر هذا عن الكتابين وغيرهما لأبي داود في ترجمته.


الصفحة التالية
Icon