وسواء نظر الناظر في القراءة المعزوة إليه على مستوى الاختيار، أو المعزوة إليه على سبيل القبول والإقرار، فإنه لا يخطئه أن يتبين المعالم الواضحة والسمات الجامعة بينها، تلك التي يشترك الجميع في الأخذ بها رواية عن الشيخ، مما يشكل النسيج المحكم المميز لقراءته، ويبرز ملامح شخصيته ويبلور مظاهر استقلاله فيها عن نظرائه من أئمة الأمصار الكبرى، ولاسيما فيما تفرد به عن عامة السبعة غيره، أو خالف فيه بعض رجال مشيخته المشهورين، مما رأينا منه نماذج وأمثلة وافية.
على أن طائفة من الحروف التي قرأ بها بعض الرواة عنه مما انتقده بعض أهل العربية يمكن عزوه إلى الراوي الذي قرأ به على سبيل الاختيار، فأقره على القراءة به على سبيل المسامحة والتيسير، فيكون من المستوى الثاني الذي سميناه "مستوى الإقرار"، ومن ثم فلا يكون نافع مسؤولا عن القراءة به، فضلا عن أن يتخذ ذريعة إلى النيل من مستواه في المعرفة بعلوم اللغة والنحو، ومن هنا يكون كثير مما انتقده عليه بعض أهل العربية غير وارد أصلا، وإنما الانتقاد فيه إذا توجه، كان متوجها إلى الرواة مما قرأوا به بمحضره، فأقرهم، لكنه يختار غيره فيما صح عنه من رواية أصحابه المختصين بالعرض والسماع وطول الصحبة له، ومن هنا فيمكن أن ترد طائفة كبيرة من الحروف التي تنسب إليه في كتب الشواذ عند أبي قرة وغيره إلى هذا القسم فيبطل بذلك مستند الذين توجهوا بالنقد إليه، واعتمدوا على ما نسب إليه من تلك الحروف في الطعن عليه وتظل تلك القراءات في تلك الأحرف متينة الصلة بأصحابها من الرواة عنه، وأما نسبتها إليه فإنما هي من حيث النظر إلى منهجه في قبول جميع ما صح في الرواية بقطع النظر عن كونه الوجه المختار أو غيره.
ومن هنا يمكن تفنيد طائفة من الاتهامات التي توجه بها بعض أهل العربية إلى نافع بالقصور في هذا العلم من مثل ما نقله القلقشندي عن ضياء الدين ابن الأثير عند ذكر "المعرفة بالتصريف" فقال:
"ثم نقل بعد ذلك خلاف آخر فنظم الخراز من المتأخرين أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافا كثيرا وعزاه لناقليه، واشتهرت بالمغرب، واقتصر الناس على حفظها، وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو والشاطبي في الرسم"(١).
وقال ابن الجزري منبها على بعض مصادر الخراز: "ونظم في ذلك أرجوزة لطيفة أتى فيها بزوائد على الرائية(٢) والمقنع من التنزيل لأبي داود وغيره"(٣).
غير أن الجديد عند الخراز بالنسبة إلى بحثنا وهو الذي يعنينا أكثر، ليس هو ما أضافه إلى المقنع وزاد به عليه؛ وإنما هو إفراده لرسم قراءة نافع وضبطها وتمييزه لها عن باقي القراءات السبع وغيرها مما يدخل في المرسوم في المصحف الإمام، وهي خطوة كانت إلى زمنه تنتظر من يقوم بها، ومشروع كان حتى عهده يحتاج إلى مثله ليأتي على مثل ما جاء عليه على يده من تمام الإتقان والأحكام.
أما أهم مميزات هذا المشروع الذي يشمل فني الرسم والضبط معها فمنها:

(١) - مقدمة ابن خلدون ٤٣٨.
(٢) - يعني عقيله أتراب القصائد للإمام الشاطبي.
(٣) - غاية النهاية ٢/٢٣٧ ترجمة ٣٣٩٤.


الصفحة التالية
Icon