"ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف، وهذا نافع بن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا، قد قال في "معايش" معائش بالهمز..... ثم ذكر وجه الخطأ في ذلك وقال: ومن جملة من عابه أبو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف: "إن نافعا لم يدر ما العربية"(١).
واستكمالا منا للصورة عن شخصية هذا الإمام، ولمزيد من التعريف بمنزلته ومكانته في القراءة وعلومها وما كان له من الريادة والسبق في كثير من مباحثها، نعقد الفصل الآتي بعون الله، ليقف القارئ معنا على صور أخرى من مجالي نبوغ نافع واجتهاده وارتفاعه في التعامل مع العلوم القرآنية من مستوى الرواية المجردة والنقل الأمين، إلى آفاق الدراية والبحث والتوجيه والتحرير.
الفصل الرابع:
شخصيته العلمية ومظاهر إمامته
في القراءة وريادته في علومها
ولقد كان من مقومات الإمامة في شخصية نافع، تلك المشاركة التي نجدها له في غير ما مجال من مجالات علوم الرواية ومباحث علوم القراءة، بل تلك الريادة التي سنقف على بعض مظاهرها فيما تناوله مع طلبته أو ألف فيه أو شارك، مما يعتبر في زمنه من الموضوعات الأبكار التي لم تروض بعد.

(١) - صبح الأعشى للقلقشندي ١/٢١٦-٢١٧. وقراءة "معائش" بالهمز رواية خارجة عن نافع كما في السبعة ٢٧٨.

١- إفراده لرسم قراءة نافع وضبطها عن الرسم والضبط العامين المشتركين بين باقي القراءات، استجابة منه للحاجة الملحة إلى هذا التمييز وتحقيقا لرغبة الراغبين في إتقان هذه الرواية رسما وضبطا وأداء، باعتبار هذه القراءة القراءة الأم المعتمدة بالبلاد، والتي ينشأ عليها الولدان، وبها يتعلمون أول ما يتعلمون من القرآن، وذلك لما لرسم المصحف وضبطه من ارتباط وثيق بكيفية أداء القراءة، ولما لكيفية الأداء أيضا من تأثر بصورة الرسم والضوابط المعتبرة فيه من إثبات وحذف وفصل ووصل وعقص ووقص، وما يراعى من ذلك في القطع والاستئناف والوقف والابتداء وغير ذلك مما تعتبر معرفته ضرورية لتحقيق الحذق المطلوب بالقراءة والضبط لأحكامها وأصول أدائها، ولذلك جعل أئمة القراءة مباحث هذا الفن من أوكد ما يؤخذ به المتعلم ويحرص على مراعاته والالتزام به، واعتبروه أحد الأركان الثلاثة التي تتوقف عليها صحة القراءة ويقوم عليها قبولها، وإلى هذا المعنى أشار الخراز في أرجوزة الرسم الأولى بقوله:
وذا حداني لانتظام الرسم... في رجز مقرب للفهم
مبوب مفصل لمن نظر... وحذفه مرتب على السور
على قراءة الإمام نافع... تذكرة لناشئ وبارع
كما أشار إليه في قوله في "مورد الظمآن":
فجئت في ذلك بهذا الرجز... لخصت منهن بلفظ موجز
وفق قراءة أبي رؤيم... المدني ابن أبي نعيم
حسبما اشتهر في البلاد... بمغرب لحاضر وباد
٢- جمعه لما تفرق في مصادر الرسم كالمقنع والتنزيل والمنصف والعقيلة وغيرها كما ذكر ذلك في صدر "المورد".


الصفحة التالية
Icon