فكما تجلى نبوغه وبلوغه درجة الاستقلال العلمي في اختياراته التي أخذ بها في القراءة، تجلى أيضا في غير علم من علومها، بسبقه إلى البحث فيه والتأليف والتدوين، أو بالتنبيه لأصحابه على بعض مبادئه العامة، انسجاما في ذلك مع معطيات العصر وثقافته، وإسهاما من جانبه في رقي العلم بهذا الشأن وتقدمه، إذ كانت القراءات في عهد تصدره للإقراء قد أخذت بالتدريج تتحول من فن قوامه النقل والسماع والحكاية الأمينة عن المشايخ، إلى علم خاص أصبح القارئ يخضع فيه لمجموعة من القواعد والأصول المتعارفة، يستفرغ الوسع في الانقياد لها والالتزام بها في القراءة والأداء، والعرض والإقراء، ويأخذ المتعلمين والعارضين عليه بالتزامها ورعايتها والنزول على أحكامها. وبعبارة العلامة عبد الرحمن بن خلدون بدأت القراءة تخرج من طور الرواية الشفوية إلى التدوين "فدونت وكتبت فيما كتب من العلوم، وصارت صناعة مخصوصة، وعلما منفردا"(١).
ولقد كانت الريادة في هذا التحول الخطير لطائفة من أئمة القراء، نهضوا بهذه المهمة بعد استيعاب ثقافة العصر وتمثلها تمثلا كافيا، مفيدين من عطاء من تقدمهم من مشيخة المائة الأولى من الصحابة والتابعين في جميع الميادين الشرعية واللغوية والأدبية، فاستطاعوا بهذا الجهد المكثف أن يظهروا على أهل المائة الثانية شيئا فشيئا، بأولى المحاولات في تحديد معالم الفن، وتدوين علومه، وتوجيه الأنظار إلى أهم قضاياه لتدارسها والتعمق في فهمها وبحثها، واتخاذ المواقف واستنباط الحلول لها.
٣- جمعه في "المورد" بين الرسم والضبط معا، وكذلك في "عمده البيان" في وضعها الأول – كما قدمنا – وذلك. بعد أن كان الرسم والضبط يتناول كل منهما منفردا كما نرى عند أبي عمرو وفي المقنع والمحكم، حيث أفرد الأول للرسم والثاني للضبط، ومثل ما نجد عند أبي داود في "التنزيل" وذيله في الضبط، وربما اقتصر المؤلف على الرسم خاصة كما فعل صاحب المنصف وصاحب العقيلة، فجاء الخراز فجمع بينهما في نسق واحد.
٤- تيسيره لمسائل الفن وحصره لمباحثه في رجز سهل ميسور للحفظ والتداول.
٥- تحديده لضبط بعض الأصول الخاصة برواية ورش، منها مذهبه في إبدال الهمز، ومذهبه في نقل حركة الهمزة، وبعض ما قرأه بالياء كقوله "لأهب لك" في سورة مريم، وتحديد كيفيات أخرى من الضبط في رواية ورش. فمن ذلك قوله:
وإن يكن مسكن من قبل... صَحَّ فحكمها لورش نقل
تسقطها من بعد نقل شكلها... وجرة تجعل في محلها
ومن ذلك قوله في حكم وضع همزة الوصل ومكانها في الضبط:
وحكمها لورشهم في النقل... كحكمها في ألفات الوصل
ففوقه أو تحته أو وسطا... في موضع الهمز الذي قد سقطا
ومنه قوله في المط للهمز لورش:
مط لهمز بعدها تأخرا... أو ساكن أدغم أو إن ظهرا
كذا لورش مثل ياء شيء... في مده ونحو واو السوء
٦- عدوله في الضبط عن طريقة الشكل المدور إلى الشكل المستطيل المأخوذ من صور الحروف، وهو شيء أملته الحاجة إلى التيسير، وساعد عليه أخذ الأكثرين في زمنه به، وهو ما أشار إليه بقوله:
كيما يكون جامعا مفيد... على الذي ألفيته معهودا
مستنبطا من زمن الخليل... مشتهرا في أهل هذا الجيل