وبمكن الاعتراف ههنا لعلماء البصرة وقرائهم في هذا المجال بالريادة والسبق المطلق في تسجيل اللمسات الأولى في معظم علوم القراءة، وخصوصا ما يتعلق منها بطريقة الكتابة وضبط المصحف ابتداء من أبي الأسود الدؤلي ـ رائد علم النحو ـ، ومرورا بنصر بن عاصم ويحيى بن يعمر، وانتهاء إلى الخليل بن أحمد "أول من صنف في "النقط"(١)ورسمه في كتاب، وذكر علله"(٢).
ولقد عملت الجهود الرسمية إلى جانب الجهود الفردية في هذا المجال، وكان من أبرز الخطوات في ذلك ما تم بالعراق في امارة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قدمنا أنه كانت له عناية خاصة وشغف زائد بهذا الشأن، حتى قيل عنه: "لم يكن أحد من الأمراء أشد نظرا في المصاحف منه"(٣).
ولقد أعطينا آنفا نظرة موجزة عن سعيه في الحد من انتشار المصاحف الفردية بالعراق المخالفة لمصحف الجماعة، وقدمنا ذكر ما فعله بأمر الخليفة عبد الملك بن مروان من التجرد لخدمة المصحف وتحزيبه وأنه أمر وهو والي العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك(٤).
(٢) - المحكم في نقل المصاحف للداني ٩.
(٣) - نكت الانتصار للباقلاني ٣٠٠.
(٤) - المحرر الوجيز لابن عطية ١/٣٥.
هذا مع أن كتاب المصاحف في المشرق والمغرب ظلوا زمانا يتهيبون الإقدام على هذه الخطوة استمساكا منهم بطريقة السلف الواضعين أولى الخطوتين في ضبط حروف المصحف، ولهذا نجد التردد بين النمطين يخالج القراء إلى أثناء المائة السابعة، وهذا الشيخ أبو طاهر إسماعيل بن ظافر بن عبد الله العقيلي (٥٥٤-٦٢٣) ما يزال يحن إلى هذه المحافظة مع ميله إلى أسلوب الشكل بالحركات لما فيه من البساطة واليسر، فيقول موازنا بين النمطين:
"والأمر قريب ـ إن شاء الله ـ غير أن موافقة التابعين والأئمة المتقدمين عندي آثر، والمصير إلى ما عرف وألف أظهر، فإن الضبط المستطيل الآن أشهر، والعمل به أكثر، وأصل الضبط إنما كان لا يضاح الكلم وتعليم النطق بها على مراد كاتبها"(١).
إنه أذن الوفاء من جهة للمبدأ العام الذي أخذت به المدرسة الأثرية شرقا وغربا، ومعه أيضا الإشعار بالحاجة التي دعت إلى تجاوز هذا المبدإ طالما أن الأمر لا يزيد عن كونه لإيضاح الكلم وتعليم النطق بها، فبأي نمط تحقق ذلك حصل المطلوب.
لكننا نجد الإمام أبا عمرو المنظر والمؤصل لهذه المدرسة في الغرب الإسلامي يتمسك أشد التمسك بمبدإ الاتباع، ويأبى إلا أن يحتذي النموذج الأول الذي كان عليه نقاط السلف الذين وضعوا هذا النمط ونشروه وأخذ عنهم، فيقول بعد أن يعرض صورة النمطين ويؤثر الأخذ بالأول أي بالشكل المدور في نقط المصاحف: