وذكر الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني أن الحجاج "بعث إلى حفاظ البصرة وخطاطيها فجمعهم عنده، ثم أدخل عليه منهم خمسة، هم: أبو العالية(١)ونصر بن عاصم(٢)وابن أصمع(٣)ومالك ان دينار(٤)، فقال: اكتبوا المصاحف واعرضوا، وصيروا فيما اختلفتم فيه إلى قول هذا الشيخ ـ يعني الحسن البصري ـ"(٥).
وذكر الإمام القرطبي عن أبي محمد سلام الحماني أن الحجاج "جمع القراء والحفاظ والكتاب، فقال: أخبروني عن القرآن كله، كم حرف هو؟ قال: فحسبنا، فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون حرفا.. قال: فأخبروني عن نصفه، فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف "وليتلطف"، وهكذا حتى سألهم عن أثلاثه وأسباعه.. قال سلام أبو محمد: عملنا ذلك في أربعة أشهر"(٦).
وذكر ابن الجوزي من عمل هذه اللجنة أيضا عد رؤوس الآي، وهو العدد المنسوب إلى أهل البصرة قال: "وأما البصري فمنسوب إلى عاصم بن ميمون الجحدري(٧)وهو أحد التابعين الحفاظ الذين ندبهم الحجاج إلى عد حروف القرآن مع الحسن البصري ونصر بن عاصم الليثي، بالشعير وحسبوه"(٨).

(١) - هو رفيع بن مهران الرياحي – تقدم.
(٢) - وهو الذي يقال له "نصر الحروف" لأنه أول من قام بالشكل المدور – ينظر في ذلك كتاب المحكم للداني ٨.
(٣) - هو علي بن أصمع عم أبي الأصمعي الراوية، تقدم ذكره في أفراد اللجنة التي كلفها الحجاج بتعقب المصاحف المخالفة لمصحف عثمان.
(٤) - هو مولى لبني ناجية القرشيين من أهل البصرة وعباد التابعين، كان وراقا يكتب المصاحف ويعيش منها، مات سنة ١٢٣. وردت عنه الرواية في حروف القرآن. ترجمته في مشاهير علماء الأمصار لابن حبان ٩٠-٩١ ترجمة ٦٥٨.- وغاية النهاية ٢/٣٦ ترجمة ٢٦٤٣.
(٥) - نكت الانتصار ٣٨٦.
(٦) - الجامع لأحكام القرآن ١/٦٤ طبعة ٣- دار الكتب.
(٧) - تقدم التعريف به.
(٨) - عجائب علوم القرآن لابن الجوزي ١٢٨-١٢٩.

"وإنما جعلنا الحركات المشبعات مدورة على هيئة واحدة وصور متفقه، ولم نجعل الفتحة ألفا مضجعة والكسرة ياء مردودة والضمة واوا صغرى على ما ذهب إليه سلف أهل العربية، إذ كن مأخوذات من هذه الحروف الثلاثة دلالة على ذلك، اقتداء منا بفعل من ابتدأ النقط من علماء السلف بحضرة الصحابة ـ رضي الله عنهم واتباعا له واستمساكا بسنته، إذ مخالفته مع سابقته وتقدمه لا تسوغ، وترك اقتفاء أثره في ذلك مع محله من الدين وموضعه من العلم لا يسع أحد أتى بعده... ثم ساق خبرا أسنده عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال للذي أمسك عليه المصحف: "إذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف(١)، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقط في أسفله...". قال أبو عمرو:
"فاتباع هذا أولى، والعمل به في نقط المصاحف أحق... فوجب المصير إلى قولهم، ولزم العمل بفعلهم دون ما خالفه وخرج عنه"(٢).
فأبو عمرو قطب المدرسة الاتباعية يفرق بين من سماهم بـ "سلف أهل العربية" وبين سلف أهل القراءة، ويرى أن الاستمساك بما وضعه هؤلاء أولى بالإتباع مما أحدثه أولئك، ولهذا استمر عامة علماء هذه المدرسة على السير على هذا المنهاج، في حين خالفهم غيرهم إلى طلب ما فيه اليسر.
إلا أن الخروج عن هذا الاتباع دفعة واحدة وبلا مقدمات كان شيئا تأباه السجية المغربية التي اعتادت إيثار مذاهب السلف، وقد كان أبو عمرو ورجال مدرسته من بعده أصدق المعبرين عنها في عصورهم.
(١) - يعني فوق آخر الكملة، لأن هذا النقط كان نقط إعراب.
(٢) - المحكم في نقط المصاحف لأبي عمرو الداني ٤٢-٤٣.


الصفحة التالية
Icon