كان السبق إذن لعلماء البصرة في هذا المجال، سواء على الصعيد الرسمي أو الصعيد الفردي(١)ولكن هذا السبق الملحوظ لا ينبغي أن تلغى به جهود بعض الأمصار الأخرى التي كانت فيها محاولات مشابهة في غير مجال من علوم القراءة لهذا العهد، ومنها ما يرجع العهد به إلى بعض علماء الصحابة كعبد الله بن عباس الذي ينسب إليه كتاب في "عدد الآي"، وتوالت جهود التابعين في ذلك، فألف في العدد عطاء بن يسار من علماء المدينة من أصحاب زيد بن ثابت، وإسماعيل بن جعفر صاحب نافع، وشيبة بن نصاح شيخه، ومن أهل الشام خالد بن معدان(٢)ومن البصرة الحسن وعاصم الجحدري(٣)، وألف في اختلاف المصاحف أيضا جماعة منهم عبد الله بن عامر إمام أهل الشام(٤).
وإلى جانب عطاء بن يسار وشيبة وإسماعيل فقد شارك علماء المدينة من مشيخة نافع في هذا المجال من علوم القرآن، بنصيب لا يبخس، حتى ان من المؤرخين من ذهب إلى إسناد السبق في وضع قواعد العربية إلى بعض علمائها، وهو عبد الرحمن بن هرمز شخ نافع، كما قدمنا في ترجمته(٥).
(٢) - من قراء الشام وعلمائها من التابعين، أدرك سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ينظر كتاب مشاهير علماء الأمصار لابن حيان ١١٣.
(٣) - ينظر في هذا الصدد كتاب الفهرست لابن النديم ٥٩-٦١.
(٤) - المصدر نفسه ٦٠.
(٥) - وينظر أيضا الفهرست لابن النديم ٦٥.
فلم يكن بالأمر السهل اليسير أن يقدم مثل أبي عبد الله الخراز على هذه الخطوة فينقل الناس عما ألفوه إلى غيره، لاسيما إذا كان مدعوما ومعززا بهذه المبادئ التي نبه عليها أبو عمرو في محكمه، ولعل انتشار النمط الخليلي الذي عناه أبو عمرو بقوله "سلف أهل العربية"، وتوسع الكتاب والمؤدبين في استعماله هو ما يسر على الخراز أن يخطو بالضبط خطوته الجريئة هذه، معتبرا ما فيها من سهولة ويسر، وحتى دون أن يلمح إلى أنه سيخالف بها ما دعا إليه أبو عمرو في منهاجه، فيقول في ذيل المورد أعني في قسم الضبط:
ففتحة أعلاه وهي ألف | مبطوحة صغرى وضم يعرف |
واوا كذا أمامه أو فوقا | وتحته الكسرة ياء تلقى |
"أشار في هذين البيتين إلى صفة الحركات الثلاث، وإلى محالها من الحروف على مذهب الخليل الذي اختاره لجريان العمل به كما ذكر، وإن كان الداني اختار نقط أبي الأسود"(١).
وينبغي هنا أن ننبه على خطأ وقع فيه غير واحد من المعاصرين ممن كتبوا عما سموه "رسم ورش" أو "مصحف ورش"، فإنهم نسبوا الرسم الذي درج عليه المغاربة إلى ورش، وأن الخراز حدد في المورد هذا الرسم بناء على روايته، وفي هذا نجد صاحب "تحفة القراء" يقول:
"وقد اشتهر عند المغاربة أن الرسم المعتمد عندهم هو ما رواه أبو سعيد عثمان ورش عن شيخه نافع فيما ثبت وصح رواية عن عثمان – رضي الله عنه – وفي ذلك يقول صاحب مورد الظمآن":
فينبغي لأجل ذا أن نقتفي... (البيتين)"(٢).
(٢) - تحقة القراء لمحمد العربي بن البهلول الرحالي ٩-١٠.