كل هذه الملامح والإشارات تعتبر شواهد واضحة على مدى مشاركة مشيخة نافع التي تخرج عليها في تنمية هذه المباحث الأبكار، وارتفاع مستوى الإقراء والتعامل مع المجال القرائي عندهم، والاتصال عن كثب بأهم المؤثرات الوافدة من المدارس العلمية بالأمصار، تلك التي كانت قد قطعت أشواطا متقدمة في الميدان، مع استثمار ذلك وتوظيفه عمليا في القراءة وكتابة المصاحف ونقطها وضبطها لهذا العهد.
ولا نستبعد أن تكون لأهل المدينة إسهامات أخرى في هذه المباحث لم يبق إلا قليل من الإشارات إليها، وربما كان ضياع كثير منها في الجملة عائدا إلى أن صناعة التأليف يومئذ كانت في بدايتها إن لم تكن في حكم المنعدمة، وذلك لما كانوا عليه من البداوة في الغالب، ولغلبة الرواية الشفوية عليهم، على ما نبه عليه العلامة ابن خلدون بقوله: "والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة، وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين"(١).
وقد رفض أبو عمرو الداني في "رسالة التنبيه": الرأي القائل بإسناد الريادة والسبق إلى الحجاج الثقفي في مجال الاهتمام بعلوم القرآن رسما وضبطا وتعداد آي، وأتى بطائفة من النقول تثبت السبق في ذلك لجماعة من تقدمي قراء الصحابة كأبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود وعثمان بن عفان ومعاذ بن جبل ومن التابعين الآخذين عنهم كمجاهد وعطاء بن يسار وسعيد بن جبير وحميد بن قيس الأعرج وراشد الحماني"(٢).
(٢) - رسالة التنبيه على الخطأ والجهل والتمويه لأب عمرو الداني (مخطوطة)
ولذلك فإن من المجازفة أن يقول القائل: إن المصحف المغربي مرسوم على رواية ورش، أو تمييز هذا المصحف عن غيره بأنه مصحف ورش باعتبار الرسم الذي رسم عليه، وإنما تصح هذه الإضافة إن صحت ـ فيما يتعلق بالشكل، فإن المصاحف المغربية ضبطت على وفق هذه الرواية، فلذلك شكل "وهو" وهي "بضم الهاء في الأول وكسرها في الثاني تمييزا لرواية ورش عن قالون، ورسم "أو -ءاباؤنا" وضبط في غير اليقطين والواقعة بجرة قبل الألف على مذهب ورش في نقل حركة الهمز إلى الساكن قبله مع حذف الهمز، على خلاف رواية قالون بالهمز وإسكان الواو، إلى غير ذلك مما يدل على أن الضبط وجزئيات يسيرة من الرسم ألحقت به في المصاحف المطبوعة كجرة الهمزة والألفات المحذوفة والياءات التي يزيدها ورش في الوصل ويحذفها في الوقف في مثل "أجيب دعوة الداع إذا دعان" فإن هذه الياءات شأنها شأن الألفات المحذوفة وغيرها مما زيد في الرسم والضبط كانت تحلق صغيرة بالألوان تمييزا لها عن المرسوم الأصلي، فلما تعذّر استعمال الألوان لهذا التمييز أعني في المصاحف المطبوعة كتبت بالسواد على وفق الرواية التي ضبط المصحف عليها. فيبقى أن المصحف مرسوم على قراءة نافع وما وافقها في الجملة، إلا أنه ضبط على مذاهب ورش وأصوله في الأداء، والخراز حينما تكلم على الرسم والضبط فعل ذلك بصورة إجمالية، وإنما نبه في قسم الضبط على بعض الجزئيات الخاصة برواية ورش ـ كما قدمنا ـ للحاجة إلى هذا التمييز حتى لا يظن أن الضبط متحد في جميع الروايات عن نافع، ويعلم أنه يجري على حسب ضوابط الرواية وأصولها.