ومهما يكن فإن التأثر والتأثير كان يومئذ متبادلا على أشده بن مدارس الأمصار، لاسيما فيما كان يجد في مجالات اللغة وتطوير وسائل الكتابة والضبط، الأمر الذي رأينا أبا عمرو الداني نفسه يلح فيه على إسناد السبق لعلماء البصرة. ولكن استفادة مدرسة المدينة من مثل هذا لا يغض من شأنها في شيء، ولا يسلبها أو ينازعها في كونها "المدرسة الأم" التي تفرعت عنها بقية المدارس الأخرى كما أسلفنا.
ولقد مر بنا من خلال التعريف بمشيخة نافع بعض التنبيه على ما كان لابن هرمز وابن جندب وغيرهما من سبق في مجالات عديدة من مجالات علوم القرآن، ولا شك أن نافعا قد استفاد مما كان يدور في حلقات أولئك المشايخ من مثل تلك المباحث التي كانت تمتاز يومئذ بالجدة والطرافة، ومن هنا كان لا بد أن تخلف أثرها في صياغة شخصيته العلمية، وأن يكون لها بعدها العميق في تكوين اختياراته في القراءة والأداء، وأن يكون خير من يمثل صلة الوصل بين ثقافة أهل المائة الأولى بالمدينة من الصحابة والتابعين في هذه العلوم، وبين أهل المائة الثانية، مما سيفتح به لمدرسة المدينة آفاقا أكثر رحابة في هذه المباحث، ويحقق به من خلال بعض تلامذته كعيسى بن مينا قالون خليفته من بعده، أهم امتداد لهذه المدرسة في المدينة وفي الآفاق التي استفادت منها، حتى عده الإمام أبو عمرو الداني في طليعة "من اشتهر من المتقدمين بالنقط واقتدي به فيه"(١)ووصفه الحافظ الذهبي بأنه "قارئ أهل المدينة ونحويّهم"(٢).
مما لا شك عندنا أنه انما كان في مستواه المشهود له به ترجمة كاملة لشيخه وأستاذه نافع الذي قدمنا أنه لازمه خمسين سنة.
(٢) - معرفة القراء الكبار /١٢٨ طبقة ٥ ترجمة ١٠.
ومهما يكن فإن أبا عبد الله الخراز قد استطاع بعمله هذا في تقريب قواعد الرسم والضبط وأحكامهما وتيسيرهما سواء بنظمهما في رجزه المحكم الرائق، أو في النمط الذي أخذ به قد استطاع أن يستبد بالميدان وحده، وأن يضع أصول مدرسة مغربية أصيلة في ذلك أصبحت مرجعا لأهل هذا الشأن منذ زمنه إلى زمننا وإلى ما شاء الله من عصور، ولهذا كان عمدة كثير من الهيئات الإسلامية التي تشرف على تحرير المصاحف ومراجعة الطبعات التي تصدر في كثير من البلدان المشرقية والمغربية كما نجد الإشارة إلى ذلك في الملحقات التي ألحقت ببعضها لبيان بعض المصطلحات المتبعة فيها في الرسم والضبط والوقف ونحو ذلك.
ولئن كان لنا بعد أن تعرفنا مع القارئ الكريم على مصادره في أراجيزه رسما وضبطا، أن نتحدث عن المذهب الأدائي أو الفني الذي ينتمي إليه، فإننا نضع اليد بسهولة على ما يدل على أن انتماءه كان إلى المدرسة الأثرية الاتباعية أعني مدرسة أبي عمرو وأصحابه، لأنه لم يتزحزح عنها قيد أنمله سواء فيما كتبه حول "الدرر اللوامع" لابن بري، وهي أرجوزة سلك فيها ناظما كما صرح بذلك فيما سيأتي – طريق الداني، أم فيما ضمنه أراجيزه المذكورة إذ أن جميع ما زاد به على المقنع من تنزيل أبي داود أو منصف البلنسي أو عقيلة الشاطبي هو عائد في النهاية من طريق الرواية إلى أبى عمرو ومدرسته.
وأما اختياره لنمط الشكل بالحركات فهو جزئية يسيرة لا تأثير لها في انتمائه بحق إلى ما ذكرنا، لاسيما إذا اعتبرنا أنه قصر جهده كله على خدمة قراءة نافع حتى قيل كان لا يحسن غيرها.