ونحن لكي يتأتى لنا رصد جهود نافع في هذه المباحث وأمثالها مما يتعلق بعلوم القرآن، وتتبع بصمات التأثير التي خلفها في الميدان من خلال آثاره المكتوبة والشفوية في المدرسة المدنية، نرى من المفيد أن نلم أولا بذكر العلوم الأساسية التي يستمد منها علم القراءات، ويستند إليها علماء القراءة في ضبط الرواية وتحقيق لفظ التلاوة وتوجيه معانيها وفقه أحكامها ورسم حروفها وضبطها وما إلى ذلك من لوازمها، وقد كفانا المؤونة في ذلك الإمام علي النوري الصفاقسي في كتابه "غيث النفع"، حيث تعرض لذلك بإيجاز محددا مقومات هذا العلم واستمداداته كما تمثلها من خلال ما قرره علماء هذا الشأن في ذلك من أمثال مكي بن أبي طالب في الرعاية، وأبي عمرو الداني في "الأرجوزة المنبهة" وأبي مزاحم الخاقاني في قصيدته المعروفة بـ"الخاقانية" في القراءة والقراء، فقال النوري:
مقومات التصدر للإقراء وأهم استمدادات علم القراءات ومدى التزامه بها ومستوى تعامله معها:
"لا يجوز لأحد أن يتصدر للاقراء حتى يتقن عقائده ويتعلمها على أكمل وجه.
ـ ويتعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه، وما يحتاج إليه في معاملته.
وأهم شيء عليه بعد ذلك:
أولا: أن يتعلم من النحو والصرف جملة كافية يستعين بها على توجيه القراءات.
ـ ويتعلم من التفسير والغريب ما يستعين به على فهم القرآن، ولا تكون همته دنيئة فيقتصر على سماع لفظ القرآن دون فهم معانيه، وهذا ـ أعني علم العربية ـ أحد أهم العلوم السبعة التي هي وسائل علم القراءات".
الثاني: التجويد، وهو معرفة مخارج الحروف وصفاتها.
الثالث: الرسم.
الرابع: الوقف والابتداء
الخامس: الفواصل، وهو فن عدد الآيات.
السادس: علم الأسانيد، وهي الطرق الموصلة للقرآن، وهو من أعظم ما يحتاج إليه، لأن القراءة سنة متبعة ونقل محض، فلا بد من إثباتها وتواترها، ولا طريق لذلك إلا بهذا الفن".
ولعلنا لا نستطيع تقويم الأثر العميق الذي كان لأعمال أبي عبد الله الخراز في هذا المجال، ولا أن نتمثل إشعاع مدرسته من بعده في مختلف العصور والأجيال، دون أن نتعرف على النشاط العلمي الذي قام على آثاره وانبثق عنها، لهذا نرى لزاما علينا أن نتوقف معه مرة أخرى لنواكب ما حظيت به أعماله من عناية العلماء وكيف عكفوا عليها بالرواية والحفظ والشرح والتعليق والتذييل والاستدراك والاحتذاء وغير ذلك مما سنرى أمثلة وافية له تكشف لنا عن مقدار أثره فيمن جاء بعده في مختلف العصور.
ونظرا لأهمية هذا المجال وصلته الوثيقة ببحثنا وبتاريخ مدرسة نافع وتطوراتها في المغرب الأقصى في هذا الطور نعقد لهذا فصلا خاصا نتتبع فيه تطور التأليف في هذا الشأن انطلاقا من أرجوزتي الرسم والضبط مع تقديم تعريفات موجزة بما أمكن الوقوف عليه وتأتى لنا من جملة الشروح وغيرها مما ارتبط بالأرجوزتين وكان منهما بسبيل، وعلى الله عز وجل التكلان، وبه سبحانه المستعان.
وسنقوم في الفصل التالي ـ بعون الله ـ بتتبع امتدادات هذه المدرسة في مختلف الجهات المغربية التي امتد إليها إشعاعها، بل في أطراف وأصقاع وأقطار بلغ إليها أثرها وأسهمت من جهتها في الإفادة منها كالأندلس والأقطار المغربية المجاورة.
وغرضنا من ذلك أن نقوم بالتمثل الكافي لما ذكرناه قبل لأبي عبد الله الخراز ومدرسته من تأثير عميق في مسار قراءة نافع في المدرسة المغربية في المائة الثامنة وما أعقبها من عصور، وعلى الأخص في هذا الجانب الذي يخص رسمها وضبطها وتحرير القواعد والأصول التي تحكم ذلك في إطار ما سميناه بـ "المدرسة الأثرية" التي أخذت على عاتقها احتذاء النموذج المدني في القراءة ورسمها انطلاقا من عمل الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم وسلك سبيلهم من سلف الأمة وأعلام الأئمة.
الفصل الرابع:
أرجوزة مورد الظمآن وذيلها وما قام حولهما من نشاط علمي عبر القرون.


الصفحة التالية
Icon