السابع: علم الابتداء والختم، وهو الاستعاذة والتكبير ومتعلقاتهما"(١).
تلك أهم استمدادات هذا العلم، والآن فلنحاول متابعة الإمام نافع في تعامله مع هذه العلوم، وكيف وقف منها في حلقته في الإقراء، ولنرصد من خلال ذلك ما قد كان له في بعضها من ريادة وسبق، أو من شفوف وتبريز، وكيف كان في تدريسه يصطنع المنهج العلمي في قضايا العربية لتوجيه اختياراته في القراءة وإرشاد علية الآخذين عنه إلى بعض منازعه في تلك الاختيارات بناء على تلك المقتضيات، فلنقف معه عند جملة من تلك العناصر:
أولا: علم العربية:
لا شك أن نافعا بحكم نشأته بين القبائل العربية الفصيحة، وطول مناقشته للفصحاء والعلماء من رجال مشيخته، قد اكتسب في العربية وعلوم اللسان ملكة رفيعة المستوى، إلا أننا لن تسوقنا الحماسة له إلى الحديث عن نبوغ له في ذلك يتميز عن علماء القراءة في زمنه، أو يطاول به أو يزاحم عليه علماء اللغة واللسان، وإنما نريد إثبات مستوى بارز له في هذا المجال على مستوى المشاركة والمدارسة والاهتمام كما تدل عليه شواهد كثيرة من أهمها اختياراته في القراءة والأداء، مما أعطينا عنه نظرة في الفصل الماضي ورأينا أنها تقوم في كثير من الأحيان إلى جانب الرواية والنقل المتواتر، على منازع معنوية، واعتبارات لسانية من لغوية وبيانية، إذ لولا تحقق مثل هذا المستوى لديه في تلك الاختيارات ما كان ليحظى في تلك الاختيارات بتنويه أهل هذا الشأن وثنائهم عليها حتى وصفها بعضهم بكونها "بز القراءات"(٢).
ويدلنا على اهتمام نافع بالعربية كثرة ما نجده من نقوله عن شيوخه، وكثرة نقول تلامذته عنه في توجيه حروف القراءة بالإشارة إلى معانيها، واختلاف منازع القراء فيها.
(٢) - تقدم، وهو من قول الأعشى صاحب نافع الآتي – ذكره أبو الحسن السخاوي في "جمال القراء" ٢/٤٤٨.
لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا عن أرجوزتي الرسم والضبط اللتين اشتمل عليهما "مورد الظمآن" للخراز أنهما قد نالتا من الشهرة والحظوة والقبول ما لم تكد تناله منظومة أخرى في علوم القراءة قديما وحديثا في المشرق والمغرب على السواء، وإن المتتبع لتاريخ الحركة العلمية في المدرسة المغربية يدرك بكامل السرعة أن هذه الأرجوزة بقسميها قد استطاعت أن تأخذ مكانها ومكانتها في الصدارة بسرعة بين المواد الدراسية التي كانت من العمد المرجوع إليها في هذا الفن، بل إنها أصبحت من جملة الأركان الركينة التي تكون الثقافة العامة للقارئ الناشئ والمقرئ المنتهي معا، إذ لا يستغني عنها هذا ولا ذاك.
ولقد تنافس الناس في روايتها وحفظها واستظهرها الولدان في المكاتب وعنوا بعرضها على المشايخ، وسارت بها الركبان إلى كل مكان فرويت في المغرب والأندلس والمشرق، "واقتصر الناس على حفظها ـ كما عبر عن ذلك ابن خلدون ـ وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو والشاطبي في الرسم".
رواياتها:
أما رواياتها عن الناظم نفسه فقد تعددت على الرغم من قلة المعروفين بالأخذ عنه من أصحابه، وقرب عهد إنشائها في صورتها الحالية سنة ٧١١هـ من تاريخ وفاته سنة ٧١٨هـ، أي أن الناظم لم يمض على نظمه نحو السبع من السنوات حتى توفاه الله، ومع هذا فقد انتشرت الأرجوزة في حياته انتشارا كبيرا وتعددت رواياتها وفي بعضها مخالفة لبعض.
وسبب هذه المخالفة أن الخراز ـ رحمه الله ـ كان لا يفتأ ينظر في أعماله العلمية طلبا لمزيد من التحرير والإجادة كما رأيناه فعل في عمدة البيان، وهكذا كان بالنسبة لأرجوزة المورد نفسها، فإن الناظم كان لا يزال يستدرك فيها من المسائل ما رآه ناقصا ويستوفي من المباحث ما رآه غير واف.