وقد وجه معه عمر عشرة من فقهاء التابعين يفقهون أهل افريقية، فأقام أكثرهم بالقيروان مدة واختط دارا وبنى مسجدا، كما كان فيهم من غزا الأندلس ومن ولي القضاء بالقيروان أو غيرها مما يكون معه الانتفاع بهم والأخذ عنهم قد شمل المغرب كله. وسيأتي التعريف بأثرهم في ذلك في الفصل التالي بعون الله.
٢- في تأسيس الربط وتعميرها والإشراف على التعليم والتوجيه فيها
أما العامل الثاني أو الوسيلة الثانية التي اعتمدها الفقهاء والولاة والدعاة في نشر الإسلام ودعم جهود الفاتحين في المناطق المغربية، فتمثل في إنشاء سلسلة من الربط الجهادية في أطراف البلاد، والربط مفردها رباط، ككتب وكتاب "والرباط واحد الرباطات المبنية"(١). قال في اللسان "والرباط والمرابطة: ملازمة ثغر العدو، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطا"(٢).
وقد توسع في استعمال اللفظ ليدل على عمل المرابط ومكان المرابطة، وجرى إطلاقه على القلاع والحصون التي تشاد على أطراف البلاد وعلى خطوط المواصلات لحراسة الثغور والشواطئ، وتأمين حاجة المنطقة إلى الدفاع والإنذار بالعدو عند الحاجة. وقد كان تأسيس بعض هذه الربط في بعض المناطق الشاطئية تمهيدا لتحويلها إلى حواضر مهمة ومراكز للحكم، على غرار ما تم بمصر بالنسبة لمدينة الفسطاط، وما تم بالقيروان نفسها التي تحولت فيما بعد إلى قاعدة إدارية، إذ يذكر أن عقبة بن نافع لما هم ببنائها قال لأصحابه: "نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط"(٣)والذي يهمنا هنا أن هذه الربط الجهادية كانت تقوم في الأحوال الأمنية بمهمة التعليم وتحفيظ القرآن وانتساخ المصاحف ونحو ذلك مما يعكف عليه نزلاؤها احتسابا وطلبا للأجر والمثوبة.

(١) - لسان العرب لابن منظور مادة ربط ٧/٣٠٣ ع ٢.
(٢) - المصدر نفسه ٧/٣٠٢ ع ٢.
(٣) - البيان المغرب ١/١٩.

وقد توقفت عند هذه القضية وتتبعت بعض ما قام عليها من نشاط علمي لإعطاء صورة عن ألوان من المطارحات العلمية التي كان علماء القراءات يتطارحونها في مسائل الخلاف، وكان للحصري فضل السبق إلى تطويع النظم لها ولفت الأنظار إليها، وستاتي لنا نماذج من هذه المطارحات عند أبي وكيل ميمون مولى الفخار في محاورته لأستاذه القيسي وفي مسائله التي طرحها على أهل مالقة وغير ذلك؛ وقد توسع أبو زيد بن القاضي في نظم طائفة من المسائل والألغاز في كتبه مع الإجابة عنها كما نجد ذلك في الفجر الساطع وغيره(١).
الفصل الثالث:
قصيدته في قراءة نافع المعروفة بـ"القصيدة الحصرية" أو "رائية الحصري".
أما أهم آثار الإمام الحصري وأسيرها في الآفاق، وأوعبها لمذاهب مدرسته واختياراتها فهي قصيدته في قراءة نافع المعروفة بـ"الحصرية" وبـ"الرائية"، وقد نظم فيها روايتي ورش وقالون عن نافع أصولا وفرشا، فكان له مقام الريادة في هذا الباب، أعني في تطويع النظم التعليمي وتذليله لاحتواء قواعد الفن وأحكام الأداء.
وقد نظم هذه القصيدة على وزن القصيدة الخاقانية ورويها لأبي مزاحم موسى بن عبيد الله بن خاقان البغدادي التي تقدم نصها(٢) بل أراد بها معارضتها ومعارضة القصائد الأخرى التي نظمت في التجويد على منوالها وإن كان هو قد عدل بها عن قواعد التجويد العامة إلى الأصول الخاصة بهاتين الروايتين عن نافع، وهما رواية ورش من طريق أبي يعقوب الأزرق، ورواية قالون المدني من طريق أبي نشيط المروزي، وفي معارضته لقصيدة الخاقاني يقول في أول قصيدته:
... فجئت بهافهرية حصرية... على كل خاقانية قبلها تزري
(١) - ينظر بعض ذلك في باب الامالة من الفجر الساطع وكذا باب الوقف على مرسوم الخط وباب الياءات.
(٢) - يمكن الرجوع إليها كاملة من رواية أبي الحسن علي بن محمد بن بشر الانطاكي العدد الرابع من هذه السلسلة.


الصفحة التالية
Icon