وعرفت المرابطة في الثغور البحرية في صدر الإسلام بشكل واسع، وكانت الربط تمتد على طول سواحل الشام ومصر وافريقية المسامتة لبلاد الروم في الشرق والغرب، وتحتفظ بعض المصادر التاريخية بشذرات من أخبار هذه الربط لهذا العهد تشهد أن عمارها كانوا في الغالب من القراء والعلماء حتى كانت المرابطة فيها عنوان زهد القارئ والعالم في متع الدنيا وعيش الرغد في الحواضر.
وهذا أحد كبار رواد هذه الربط في زمنه وعميد القراء والزهاد في عهده أبو محمد عبد الله بن المبارك (ت ١٨١) يخاطب من أحد هذه الربط بالشام رائد شعر الزهد في عصره ببغداد الشاعر أبا العتاهية شاعر الخلافة العباسية، ناعيا عليه المفارقة العجيبة بين ما يعيش فيه وبين ما يدعو إليه، فيقول:

أيها القارئ الذي لبس الصوف وأضحى يعد في الزهاد
الزم الثغر والتعبد فيه ليس بغداد منزل العباد
ان بغداد للملوك محل ومناخ للقارئ الصياد(١)
وله مثل ذلك أيضا وهو يخاطب زميله في الرباط في بلد طرسوس من سواحل الشام أبا علي الفضيل بن عياض (ت ١٨٧) حين خرج الفضيل حاجا تاركا المرابطة في هذا الثغر، فطابت له المجاروة بالبلد الحرام فكتب إليه يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
(١) - نقله عياض في ترتيب المدارك ٣/٧٣ وفي "الفنية في شيوخ عياض" له ١٠٤.

وأما نظمه لها فقد رجح بعض من تعرضوا لتحديد مكانه أنه كان بسبتة أو طنجة(١)، إلا أنه لم يتعرض لتحديد الزمان، وقد وقفت في هذا الصدد على إشارتين تساعدان على معرفة التاريخ على وجه التقريب، أما أولاهما ففي المقدمة النثرية التي مهد بها للقصيدة، إذ نجده دعا فيها ـ كما تقدم ـ للمنصور والحاجب يريد بالمنصور "سقوت" أو "سواجات" "البرغواطي، وبالحاجب ابنه العز بن سقوت، وذكر أنهما أجلساه لإقراء كتاب الله وأخرجاه من ظلمة الشعراء إلى نور القراء"، وهذا يقتضي أنه وفد عليهما بعد أن تمهد لهما حكم المنطقة، وقد قدمنا أن استيلاء سقوت على الحكم بها كان سنة ٤٥٣هـ، فيكون نظم القصيدة بعد هذا التاريخ أو في أثنائه، وربما كان ذلك باقتراحهما كما يتبادر من قوله: "فهما فجرا هذا النهر من بحري"، وإن كان لم يصرح به، مكتفيا بقوله " بصفحهما الجميل، وإحسانهما الجزيل".
أما الإشارة الثانية فهي تفيدنا في حصر الأعوام التي يتردد احتمال نظمه بينها، وهي الأعوام السبعة التالية لاستيلاء سقوت على الحكم، فقد جاء في تكملة ابن الأبار في ترجمة أبي محمد عبد الله بن يوسف بن سمجون انه "لقي أبا الحسن الحصري الكفيف بطنجة في سنة ٤٦٠ فأخذ عنه قصيدته في قراءة نافع"(٢).
فتاريخ نظمها إذن هو قبل لقاء ابن سمجون له في هذا التاريخ، والراجح أنه كان بطنجة حيث لقيه. أما عدد أبياتها فقد أشار إليه بقوله:
على مائتي بيت تنيف تسعة وقد نظمت نظم الجمان على النحر"
(١) - "الحركة العلمية في سبتة لإسماعيل الخطيب ١١٢.
(٢) - التكملة لابن الأبار ٢/٨٢٣ ترجمة ٢٠١١.


الصفحة التالية
Icon