وأما معرفته بوجوه الإعراب وأساليب البيان، فيشهد لها ما يلاحظ في كثير من اختياراته من وجوه إعرابية خاصة، كما يلاحظ ذلك أيضا في بعض ما اختاره في مواقع الوقف والابتداء ـ كما سيأتي ـ فإن التحقق من ذلك لا يتفق ولا يتاح للقارئ دون أن يكون له رسوخ في هذه الصناعة، ولهذا عبر علماء القراءة في مختلف العصور عن مقدار حاجة القارئ إلى احكام قواعد العربية، فنجد أبا الحسن الكسائي ينعي على الذين يقرأون القرآن دون أن يكونوا على علم بتوجيه ما يقرأون فقال في أبيات:
إنما النحو قياس يتبع... وبه في كل أمر ينتفع
وإذا لم يبصر النحو الفتى... هاب أن ينطق جبنا فانقطع
فتراه ينصب الرفع وما... كان من نصب ومن خفض رفع
يقرأ القرآن لا يعرف ما... صرف الإعراب فيه وصنع
والذي يعرفه يقرؤه... وإذا ما شك في حرف رجع(١)
ويقول أبو عمرو الداني في مثل لك من أرجوزته:
...... ولا تقف إلا على التمام أو حسن كاف من الكلام
وكل هذا قطبه الاعراب تاركه ليس له صواب
فألزم الأشياء للقراء... معرفة الاعراب للأداء
وفهم ما يجيء في القرآن من غامض يدرك بالبيان(٢)
ويقول أبو الحسن الحصري القيرواني في هذا المعنى:
وأحسن كلام العرب إن كنت مقرئا... وإلا فتخطي حين تقرأ أو تقري
لقد يدعي علم القراءات معشر... وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قبل: ما إعراب هذا ووزنه... رأيت طويل الباع يقصر عن فتر(٣)
ومن هنا جاء اهتمام نافع وأمثاله بهذا الفن، وقد مر بنا ما توافر لبعض شيوخه من مستوى في هذا الشأن، لاسيما عبد الرحمن بن هرمز الذي قدمنا أنه كان أول من فتق النحو لأهل المدينة، فغير بدع إذن أن يرث التلميذ عن شيخه نصيبا من هذا الاهتمام وإن لم يصل إلى مستوى النبوغ. حتى قيل عنه:
(٢) - الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني.
(٣) - القصيدة الحصرية في قراءة نافع وستأتي.
"فلما رأيته محسنا في نظمه متقنا، واعتناء الناس بحفظه في البلدان، وترداد ذكره بين الشيوخ والولدان. أردت أن أشرحه وأذكر مشكله وموضحه، وكنت ابتدأت هذا الشرح في حياة ناظمه، وكانت لي في ذلك عزيمة ونية وانتهيت به إلى الأسماء الأعجمية(١)، ثم عزبت نيتي، وانحلت عزيمتي، لأعذار أوجبت ذلك، منها الاشتغال بتعليم الصبيان، ولاستغراق جميع الزمان، وتغير الأحوال، ومكابدة العيال، وأمور كثيرة حالت بيني وبين تمامه، وكل شيء إلى وقته وأيامه، فلما كان في هذه السنة التي هي سنة أربع وأربعين وسبعمائة قدم علينا بعض الطلبة من نظر تلمسان، فسألوني إقراء الرجز المذكور، وكانوا يترددون إلي، ويلحون في الطلب علي، فاعتذرت لهم بتعليم الأولاد وغيره من الأشغال، من مكابدة الدنيا في الكدّ على العيال، فلم يقبلوا لي عذرا، وأرهقوني من أمري عسرا، ولم يزالوا إلي يترددون، وعلي في الطلب يلحون، إلى أن يسر الله علي في وقت من الأوقات، وساعة من الساعات، فأجبتهم إلى ما طلبوا، ووافقتهم فيما رغبوا، وأخذت في قراءته وتصوير حروفه، على حسب ما أقرأنيه ناظمه وما سمعته منه – عفا الله عنا وعنه – فلما سمعوا ذلك رغبوني في أن أضع ذلك في كتاب، ورأوا ذلك من الصواب، فامتنعت من ذلك كل الامتناع، لقصور الباع، وجمود الطباع، وكثرة الأشغال، وتغير الأحوال، وليس لي فراغ إلا يوم الخميس ويوم الجمعة(٢)، وربما تعرض لي أشغال تستغرق هذين اليومين فيطول الأمر في ذلك...
"والأعجمية كنحو لقمان | ونحو إسحاق ونحو عمران". |