وقد فرق ابن قتيبة في ذلك بين مقامين: مقام الأداء العادي في التلاوة، ومقام التلقين، فنوه بالمقام الأول في موضعه وذكر أنه قراءة السلف، وأنها "كانت سهلة رسلة ـ قال ـ: وهكذا نختار للقراء في أورادهم". ثم قال عن المقام الثاني: "فأما الغلام الريض والمستأنف للتعلم، فنختار له أن يؤخذ بالتحقيق عليه من غير افحاش في مد أو همز أو إدغام، لأن في ذلك تذليلا للسان، وإطلاقا من الحبسة، وحلا للعقدة"(١).
ومن هذا المنطلق أخذ الإمام نافع يعنى بالأخذ بقراءة التحقيق حتى اشتهر بها، ورواها عنه بعض أصحابه وأخذوا بها، ومنهم أبو سعيد ورش الذي ندير هذا البحث حول روايته، وسوف نرى عند دراسة أصول هذه الرواية أنه كان يسند قراءة "التحقيق" خاصة من قراءته بها على نافع من طرق شيوخه الخمسة عن عبد الله بن عياش عن أبي بن كعب عن النبي ـ ﷺ ـ(٢).
و"التحقيق" المذكور هو نوع من الترتيل، والفرق بينهما ـ كما يقول أبو عمرو الداني ـ أن الترتيل يكون بالهمز وتركه، والقصر لحروف المد، والتخفيف والاختلاس(٣)، وليس ذلك في التحقيق"(٤).
ومعنى ذلك أن "التحقيق" أقصى ما يكون من الترتيل، أو هو القدر الزائد عليه.
وبقيت لنا إشارات قليلة مما كان يأخذ به نافع على أصحابه في تلقين هذه القواعد عند الأداء، ففيما حدث به عنه القارئ المصري سقلاب بن شيبة قال: قال لي نافع:
"بين النون في هذه الأحرف إذا لقيتها: عند الحاء والخاء والعين والغين والألف والهاء"(٥).
(٢) - أسنده أبو عمرو الداني في كتاب "التجريد بسند مسلسل بالقراءة بالتحقيق ونقله ابن الجزري في النشر ١/٢٠٦-٢٠٧ بسنده من طريق أبي عمرو الداني، وذكر أنه ذكره في جامع البيان.
(٣) - هو الإسراع بالنطق بالحركة حتى يظن أن الحرف ساكن.
(٤) - نقله ابن الجزري في التمهيد ٦٢.
(٥) - غاية النهاية ١/٣٠٨-٣٠٩ ترجمة ١٣٥٩.
وقد ترجم الشيخ الكتاني في السلوة للشارح ووصفه بالشيخ الإمام المجود الهمام الأستاذ المقرئ، ثم ذكر أنه "كان أحد أساتيذ القراء المعتبرين، والنبهاء الحذاق المحررين، عارفا بالقراءات وضبطها ورسمها وما يتعلق بها.. ولم يذكر من شيوخه أحدا غير أبي عبد الله الخراز، كما لم يذكر شيئا عن سنة وفاته رحمه الله"(١).
أهمية هذا الشرح:
على الرغم مما ذكره مؤلفه من افتقاره إلى التحرير والتنقيح وما فيه مما نبه عليه من وهم، فإن عامة الشراح قد اعتمدوه لما تميز به من خاصية لم تقع لغير مؤلفه، وهي روايته للأرجوزة المشروحة عن ناظمها وقراءته لها على الناظم أيضا، وهذا بالإضافة إلى وقوفه على نسخة الناظم ونقله من كلامه وخطه في مواضع من الكتاب كترجمته وما ذكره من تعديله للأرجوزة كما قدمنا من نقله عنه، بل إنه قد زاد على ذلك فكان له فضل في مراجعة المؤلف في بعض المسائل التي وهم فيها في العزو كما أشار إلى بعضها في مواضع من شرحه.
فمن ذلك قوله عند قول الخراز:
كذابا الأخير قل وعنهما | أساوره أثارة قل مثلما |