وهذه الأحرف الستة هي المعروفة في علم التجويد بحروف الحلق، لأن مخرجها منه، وقد نبهه نافع على إظهارها وبيانها في حالة الإسكان، وعدم إخفائها عند هذه الأحرف كما تخفى عند غيرها من باقي الحروف. وذلك في مثل "أنعمت" و"ينهى" و"من خير" و"ينئون"(١)، وكذلك عند النون المنقلبة عن التنوين نحو "عليم حكيم" و"جرف هار".
وقد نبه الواضعون لعلامات الضبط على كيفية التفريق فيه بين النون المخفاة والمظهرة عند الحروف الحلقية وغيرها، وذلك بتعربة المخفاة من السكون دون المظهرة، كما فرقوا في مثل ذلك من المنون، فوضعوا حركتي التنوين متتابعتين في ما هو مخفى، ومتراكبتين في المظهر، مساعدة للقارئ على التفريق بينهما في الأداء، وهذا العمل في هذا التمييز من وضع المتقدمين من النقاط، وربما كان لعلماء المدينة نصيب فيه.
وقد وصف أبو عمرو الداني ذلك في "المحكم" ثم قال: "وهذا الذي ذكرناه من تراكب التنوين عند حروف الحلق وتتابعه عند غيرها من سائر حروف المعجم، إجماع من السلف الذين ابتدأوا النقط وابتدعوه، وجرى عليه استعمال الخلف"(٢).
ولعل شيوع أخذ نافع بقراءة التحقيق جعله يستغرب قراءة "الحدر" أو يتظاهر بذلك عند من قال له من العارضين عليه: "خذ علي الحدر، فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا، قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: "حدرنا أن لا نسقط الإعراب، ولا نشدد مخففا، ولا نخفف مشددا، ولا نقصر ممدودا، ولا نمد مقصورا..."(٣).
ولعل تنويه نافع ببعض المجيدين للأداء من أصحابه كان نابعا من تحقيقهم لهذا المستوى من الانسجام في القراءة مع مقتضيات الإجادة والتحقيق، فقد قال عنه صاحبه قالون:

(١) - الهمزة التي تظهر عندها النون هي التي عبر عنا نافع بالألف اعتبارا لحملها لها في مثل "قد أفلح".
(٢) - المحكم ٧٢.
(٣) - نقله علم الدين السخاوي في جمال القراء ٢/٥٣٠. وقد تقدمت الاستفادة من النص.

"أراد قوله تعالى في سورة النبأ": "لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا"، واحترز بقوله "الأخير" من الأول وهو قوله: "وكذبوا بآياتنا كذابا" فذكر أن "كذابا" الأخير محذوف لأبي داود، وقد طالعت نسخا من "التنزيل" ومن "مختصر التنزيل"، فما رأيت أبا دواد تعرض لذكر الأول ولا الأخير، لا بحذف ولا بإثبات، فذكرت ذلك للناظم – رحمه الله – مرة بمنزله في مدة سكناه بالبلد الجديد(١)، فأخرج منه مبيضات وأوراقا كثيرة كان بَيَضَّ فيها ما نظمه في هذا النظم فلم يجد فيها "كذابا" فتعجب من ذلك، فقال – وهو صادق - : ما نظمت شيئا حتى رأيته وتحققته، ووعدني البحث فيه والنظر، فما راجعته فيه حتى مات – رحمه الله"(٢).
ولقد ذكر في بداية شرحه أنه "قرأ الرجز على الناظم قراءة تفقه وبحث عن تنبيهاته وإخراج لما خفي من مشكلاته وحل لما انغلق من مقفلاته"(٣).
ولهذا نجده في شرحه يرجع إلى بعض ما أخذه عنه مباشرة، كأن يقول: "هكذا أخبرني ناظمه"(٤)، أو يقول: "مما حفظته عن ناظم هذه القصيدة رحمه الله"(٥).
ونجده أحيانا ينقل عن خط الناظم أو ينقل عن بعض أصحابه، ومنه ما نقله عند قوله في الحذف:
ولأبي داود جاء حيثما إلا يضاعفها كما تقدما
فقد شرح معنى البيت ثم عقّب عليه بقوله: وهذا الذي ذكر – رحمه الله – في هذا النظم هو الذي وجدت له بخط يده في طرة نسخة من هذا الرجز لبعض الطلبة ممن كان يلازمه ويقرأ عليه هذا الرجز، فكتب له – رحمه الله – في قوله في هذا الموضع: "ولأبي داود جاء حيثما" ما نصه:
(١) - يعني بفاس الجديد، وقد كان من منشآت المرينيين لهذا العهد.
(٢) - التبيان لوحة ١٥٣ من مخطوطة الشيخ الكونطري بالصويرة.
(٣) - التبيان لوحه ٥..
(٤) - التبيان لوحة ١٣٢.
(٥) - التبيان ١٤٣.


الصفحة التالية
Icon