وهكذا نالت مدرسة نافع في المدينة ثم في امتداداتها في الجهات المغربية منزلة الإمامة في هذا العلم ومتمماته، فأشبعوه بحثا، واستفرغوا غاية الجهد في مسائله وقضاياه نظما ونثرا، كما سوف يمر بنا من خلال جهود أئمتهم ومصنفاتهم وقصائدهم السائرة في ذلك بعون الله فيما نستقبله من هذا البحث.
رابعا : معرفة الوقف والابتداء
ومن الموضوعات التي لا غنى للقارئ عن معرفتها، موضوع الوقف والابتداء، وهو فرع من علوم القراءة يحتاج إلى حس دقيق وثقافة عالية في أساليب البيان العربي وطرائق الخطاب، إلى جانب المعرفة الصحيحة بمواضع رؤوس الآي أو ما يسمى بعلم العدد كما سيأتي-، كما يقتضي أيضا تضلعا في التفسير ومعرفة التأويل، وذلك لما يترتب على الوقف والابتداء من معان، يجيء منها المقبول المراد من الآية، ويجيء المتعسف المردود.
وقد نص علماء هذا الشأن على صعوبة هذا العلم، وافتقاره إلى ثقافة علمية مكينة، إذ أن مواقع الوقف في القرآن ليست كلها بدرجة واحدة من الوضوح، "فمن الوقف ما هو واضح مفهوم معناه، ومنه مشكل لا يدرى إلا بسماع وعلم بالتأويل، ومنه ما يعلمه أهل العلم بالعربية واللغة، فيدري أين يقطع؟ وكيف يأتنف؟"(١).
ولهذه الصعوبة واكتناف الخفاء والغموض لبعض مواقع الوقف كان أبو بكر بن مجاهد يقول: "لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص وتخليص(٢)بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن"(٣).
(٢) - لعله الصواب كما في الإتقان للسيوطي ١/٨٧، وليس تلخيص "كما في القطع والائتناف ٩٤ والبرهان – للزركشي ١/٣٤٣.
(٣) - القطع والائتناف ٩٤.
وهو محذوف.........(١)
تلك إصلاحات ابن جابر أو استدراكاته لما سكت عنه الخراز أو رأى أن نظمه لم يف ببيانه وإيضاحه، مما أودعه في شرحه المذكور – كما تقدم – وهذه المسائل التي استدركها وجملتها سبع وأربعون أو أكثر بالنظر إلى أفرادها، تدل على تمكن كبير من الفن وإطلاع واسع على مصادره، واستيعاب كامل للخلافيات المتعلقة به، واهتمام زائد فتح به المجال لمن جاؤوا بعده، وأهمية هذه الإصلاحات أو الاستدراكات تكشف لنا عن عنصرين هامين في تطورات الرسم في المدرسة المغربية:
١- أحدها الوقوف على أهم الخلافيات التي كان الرسم يتراوح بين الأئمة فيها قبل أن يستقر على ما هو عليه اليوم بعد أن نقحت قضاياه وهذبت وانتهى فيها العلماء إلى المذاهب الراجحة وتركوا المرجوحة.
٢- وثانيها الوقوف على الأصول التي استقى منها علماء الرسم المتأخرون كثيرا من المباحث التي تطرقوا لها وتوسعوا فيها في مؤلفاتهم مصححين ومرجحين كما نجد مثلا في كتب ابن القاضي في ذلك(٢).
ولعل الأيام تكشف عن أصل هذه الاستدراكات في مكانها من شرحه الذي لا نشك أنه كان فريدا في بابه في هذا المجال.
(٢) - ومنها مثلا كتاب "بيان الخلاف والتشهير والاستحسان، وما أغفله مورد الظمآن"، وكتابه "الجامع المفيد لأحكام الرسم والقراءة والتجويد".