لست أعلم أحدا من الأئمة الذين أخذت عنهم القراءة له كتاب مفرد في "التمام"، إلا نافعا ويعقوب، فإني وجدت لكل واحد منهما كتابا في "التمام"، ثم قال:
"وإذا كان غير نافع ويعقوب قد ذكر في التمام شيئا، فليس يخلو أمره من أحد وجهين: إما أن يكون لبس له شهرتهما، وإما أن يكون ليس مثلهما"(١).
ولا يخفى أن قول النحاس هذا تنويه صريح بمقام الريادة الذي مثله في هذا الفن كل من نافع في الحجاز، ويعقوب في العراق، مع تقدم نافع في الزمن، ولعله حين يضع بين أيدينا الاحتمالين اللذين ذكرهما، يجيب عن افتراض متوقع، يريد أن يضع بعض البدايات الساذجة أو غير الناضجة في مقام السبق، مع أنها ليست لها مزية الشهرة التي حظي بها كتاب نافع ويعقوب في وقف "التمام"، أو ليست لها منزلتها من الناحية العلمية.
ولست أدري هل غاب عن النحاس كتاب شيبة بن نصاح شيخ نافع في موضوع الوقف، وهو كتاب يمثل به الريادة المطلقة، إذ يقول عنه الحافظ ابن الجزري: "هو أول من ألف في الوقوف، وكتابه مشهور"؟(٢)
أم أن النحاس على علم به، ولكنه يعتده من أحد القسمين اللذين ذكرهما ضمن الاحتمالين؟.
وقد ذكر ابن النديم أيضا جملة من المؤلفات في الوقف يرجع تاريخها إلى هذا العهد وما قبله(٣)، إلا أنها في الجملة قد لا تخرج عن الاحتمالين السابقين: ضعف مستواها، أو قلة شهرتها.
وكيفما كان الحال فإن الذي يهمنا هو إثبات الريادة لنافع في هذا العلم بالمدينة بعد شيخه شيبة أو معه، بتأليفه في هذا الموضوع الجديد، وهو تأليف سارت به الركبان رواية عنه في حياة مؤلفه، وتلقاه عنه الجم الغفير، وحمله الرواة عنه إلى مصر وغيرها. وقد أطلق عليه الحافظ ابن الجزري اسم "كتاب التمام" وقال: رواه عنه سقلاب بن شيبة"(٤).

(١) - القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس ٧٥.
(٢) - غاية النهاية ١/٣٣٠ ترجمة ١٤٣٩.
(٣) - الفهرست لابن النديم ٦٠.
(٤) - غاية النهاية ١/٣٠٨ ترجمة ١٣٥٩.

"وكان موضع سكناه فاس الجديد، وكان ضابطا لرواية نافع، عارفا بها، ذا ذهن ثاقب، وكانت صناعته ـ رحمه الله ـ الخرازة في أول عمره، واشتغل في آخر عمره بتعليم القرآن، وله مشايخ عدة، وكان أكثر اعتنائه في مشيخته بأبي عبد الله القصاب، ولقي الأستاذ ابن آجروم ـ رضي الله عنه ـ وأخذ عنه، وله تواليف عدة بين نظم ونثر، وكان الله ـ تبارك وتعالى ـ فتح له في النظم والنثر، وكان يعلم الصبيان، ومات ـ رحمه الله ـ بفاس الجديدة، ودفن بموضع يعرف بالجيزيين، وكان الأستاذ سيدي أبو إسحاق(١) يرى الناس قبره، وذكر بعض الطلبة أنه وقف على قبره فألفاه قد درس".
ثم قال: قال ـ رحمه الله تعالى ـ:
الحمد لله العظيم المنن ومرسل الرسل بأهدى سنن
ثم أخذ في شرح متن المورد، وغالب صنيعه أنه يقتصر على إعراب البيت وتقريب فهمه من القارئ ثم يقول عقب ذلك: قال أبو الحسن مشيرا إلى شيخه المذكور ـ ويسوق كلامه في الأحكام التي تضمنها البيت مما قيده عنه، وهو يجري في أغلب ذلك على طريقة السؤال والجواب، وذلك بحصر الموضوع في عدة أسئلة ثم يأخذ في الإجابة عنها، كقوله في أول باب الحذف: "والكلام في الحذف في فصول: الأول في حقيقته، الثاني في حكمه، الثالث في الأصل فيه، الرابع في فائدته، الخامس في الحروف التي تحذف، السادس في علة حذفها".
أما حقيقته: فهو الإزالة، تقول حذفت الشيء: إذا نزعته وأزلته. وأما حكمه فهو واجب، وأما الأصل فيه، فمن أثبت ما يحذف، أو حذف ما يثبت فقد خالف الصحابة رضي الله عنهم، وأما فائدته فهي التخفيف والتقليل لحروف المعجم، وأما الحروف التي تحذف فهي الياء والواو والألف. وأما العلة في حذفها فلأنها إذ حذفت يبقى ما يدل عليها، وما حذف وبقي ما يدل عليه كأنه لم يحذف، وقيل لكثرة دورها في الكلام(٢).
(١) - المراد أبو إسحاق التجيبي وسياتي آخر هذا الفصل.
(٢) - ذكره عند قول الخراز: باب اتفاقهم والاضطراب...".


الصفحة التالية
Icon