وإنما سقنا هذه الأخبار والأمثلة لبيان مقدار الأثر الذي كان لهذه الربط في مجال القراءة وتعليم القرآن بوجه عام. وأحسب أنه لو نقلت إلينا أخبار الربط الافريقية والمغربية على وجهها وعلى نحو ما نقلت لنا أخبار غيرها من الربط المشرقية، لوقفنا منها على قريب مما كان يجري بها من حركة ونشاط في هذا المضمار، ولاسيما منها تلك الربط التي كانت معروفة على السواحل، والتي ذكر أنها بلغت ألف رباط من طنجة إلى الاسكندرية على نحو ستة آلاف كيلومتر... وكان الناس يتطوعون فيها لمدد معينة لحراسة الثغور، أو للتعليم بالمجان، أو للمعالجة أو انتساخ المخطوطات"(١).
والمشهور في كتب التاريخ أن أقدم هذه الربط هو "رباط المنستير"، ويقع بين المهدية وسوسة بالقطر التونسي، وكانت "المنستير" من أعظم مدائن الروم قبل الإسلام"(٢).
أما الرباط المعروف باسمها فقد أسسه هرثمة بن أعين والي المنطقة لهارون الرشيد سنة إحدى وثمانين ومائة(٣)، ولعل شهرة هذا الرباط إنما جاءته من وقوعه على الطريق الرابطة بين المشرق العربي وبين الجهات الداخلية من المغرب والأندلس، فكان منزلا مشهورا على الطريق التي تعبرها القوافل. أما المصادر المغربية فتشير إلى رباط أقدم منه بما ينيف على قرن من الزمن، هو رباط شاكر بن عبد الله الأزدي الآنف الذكر، وهو ما يزال يحمل اسم صاحبه إلى اليوم(٤).

(١) - الدكتور محمد عبد القادر أحمد في بحث "المخطوطات العربية بالمغرب" مجلة المورد العراقية العدد ١ مجلد ٨-١٣٩٩-١٩٧٩.
(٢) - البيان المغرب ١/٢٤.
(٣) - البيان المغرب ١/٧٩ والاستقصاء ١/١٣٥.
(٤) - يقع هذا الرباط في جنوبي مدينة مراكش على بعد خمسة وثمانين كلم منها، وقد كان تأسيسه سنة ٦٢ هـ، وجدد بناءه المولى محمد بن عبد الله العلوي سنة ١١٨٧، ويمكن الرجوع في ذلك إلى الاستقصاء للناصري ٤/١١٥، والموسوعة المغربية معلمة الصحراء لعبد العزيز بنعبد الله ص ١٠٦.

نظرا لاشتهار القصيدة وسعة استعمالها بين القراء ومشايخ الإقراء في الحواضر والبوادي، فإن نسخها الخطية كانت واسعة الانتشار، وما تزال كذلك إلى الآن، إلا أن عامة ما هو متداول بأيدي طلبة القرآن اليوم كثير التحريف والتصحيف إلى الحد الذي تعسر معه الاستفادة منه أحيانا، مع انتشار الجهل باللغة والنحو، وقد اطلعت منها على ما ينيف على عشر نسخ أهمها النسخة التي أدرجها شارحها أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الطفيل العبدري المعروف بابن عظيمة الاشبيلي ضمن شرحه الآتي عليها، ومخطوطة هذا الشرح محفوظة بخزانة ابن يوسف بمراكش(١)، وهي مؤرخة بيوم الثلاثاء ١٥ ذي القعدة عام ٧٢٨ حسب ما كتبه الناسخ في آخر ورقة منها.
ومن النسخ التي وفقت عليها وسأعتمدها في تحقيقها بعون الله نسخة خزانة أوقاف آسفي وهي مؤرخة ـ كما في آخرها ـ بعشية يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر عام ١١٢٢ كاتبها أحمد بن عمر البلوي وتقع في ٢٠٧ أبيات(٢).
وسأقارن إلى نسخ أخرى إذا استلزم الأمر منها نسخة شيخنا المقرئ السيد محمد بن إبراهيم الزغاري إمام مسجد البير الفايض بالكريمات من بادية الصويرة، ونسخة السيد محمد الرسموكي أبي يحيى إمام مسجد أزرو قرب مدينة أكادير، وكلتاهما نسختان كتبتا في أول القرن الماضي (الرابع عشر الهجري).
وتمتاز كل من النسخة المراكشية والأسفية بوجود المقدمة النثرية التي صدر بها الناظم للقصيدة، وهي نادرة في أيدي القراء مع أهميتها البالغة في إلقاء بعض الضوء على ظروف نظمها والباعث عليه وذكر الغرض منها والمباحث التي سيتناولها فيها، وهذه هي القصيدة نرجو أن نوفق إلى تقديمها كاملة مع مقدمتها النثرية:
القصيدة الحصرية ومقدمتها النثرية:
(١) - التكملة ٢/٧٦٧ ترجمة ١٨٩٤.
(٢) - رقمها بالخزانة المذكورة ٢٩٨.


الصفحة التالية
Icon