ولا يخفى ما كان لهذا الرباط وأمثاله على المدى الطويل من أثر في الحفاظ على الإسلام وتكوين الأجيال تكوينا صحيحا سواء في المعرفة الدينية وتكوين "أطر" الدعوة، أم في التدريب على القتال والفروسية، وقد اشتهر بعض هذه الربط بالدراسات الفقهية المتخصصة، ومنها رباط قصر زياد بتونس، وكان يسمى "درا مالك" لكثرة من فيه من العلماء والعباد والصالحين من أصحاب مالك، وكان فيه من أصحاب سحنون(١)أربعة عشر رجلا(٢)، وكان سحنون نفسه من رواده، وصام به مرابطا خمسة عشر رمضانا(٣).
وكانت ترتبط بهذه الربط العامرة مساجد خاصة يجتمع فيها المرابطون وغيرهم في أوقات مخصوصة من كل أسبوع لسماع القرآن وحضور مجالس الذكر وإنشاد الأشعار في الزهد والرقائق والترغيب في الجهاد، وكان يطلق على كل مسجد منها اسم اليوم الذي اعتيد على الاجتماع فيه لهذا الغرض، كمسجد السبت ومسجد الخميس اللذين كانت تقرأ بهما الرقائق كل يوم خميس وسبت "يحضر تلك المجالس الصلحاء والقراء وأهل الخير"(٤).
وامتدادا لهذا الدور الذي مثلته الربط الجهادية في الصدر الأول في هذا المجال ظهر في الجنوب المغربي في المائة الخامسة رباط عبد الله بن ياسين الجزولي الذي منه حركة المرابطين في طور ترعرعها ونشأتها انطلقت، ومنه اشتقت اسمها الذي أقامت على قواعده أركان أقوى دولة حكمت المغرب عسكريا وبنت صرح وحدته التاريخية من نهر السينغال جنوبا إلى طليطلة وما وراءها شمالا، ففي هذا الرباط تكون رجال هذه الحركة، ومنه اندفعوا لإنقاذ المغرب من براثن النحلة البرغواطية الضالة، واستنقاذ الأندلس من سقوط عاجل في أيدي نصارى الشمال كان وشيك الوقوع.

(١) - هو عبد السلام بن سعيد التنوخي عميد فقهاء المالكية بالقيروان، وسيأتي في مكانه من البحث.
(٢) - ترتيب المدارك ٤/٣٨٤.
(٣) - المصدر نفسه ٤/٧٤.
(٤) - معالم الإيمان للدباغ ١/٣١-٣٢.

قال الشيخ الجليل النحوي المقرئ قدوة أهل زمانه ووحيد عصره أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري رحمه الله(١).
الحمد لله ذي العزة والطول، والقوة والحول، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيئين(٢) مرسلا(٣) وأكرمهم عند الله منزلا، وسلم تسليما(٤) آخرا وأولا.
وبعد فإني لما رأيت قصيدة أبي مزاحم موسى بن عبيد الله الخاقاني المقرئ ـ رحمه الله ـ تقصر عن كثير من معاني أصول القراءة وغيرها، إذ لا يقدر شاعر غيري على نظم جميعها، صنعت هذه القصيدة غير مفاخر له بها ولا مستعجز عنه، وكيف وقد اعتذر من التقصير فقال:
وقد بقيت أشياء بعد لطيفة يلقنها باغي التعلم بالصبر(٥)
ولكن قصدت إلى ما لم يقصد إليه، ونبهت على ما ينبه عليه، من ذكر التعوذ والبسملة وميم الجمع وهاء الإضمار والمد والقصر وتحقيق الهمز الساكن والمتحرك وتسهيله في مجاريه كلها، ونقل الحركة إلى الساكن قبلها، وترتيب الهمزة الساكنة، والإظهار والإدغام، والروم والاشمام، والفتح والإمالة، وتفخيم الراءات واللامات وترقيقها، وفرش الحروف، والزوائد، واستقصيت ذلك كله.
واتبعت أصل ورش وأصل قالون في روايتيهما، وما تفرد به قالون دون ورش، فحافظ قصيدتي هذه يحصل على ثلاث روايات، ولا يحتاج إلى درس كتاب، ولا يعجز ـ إن شاء الله ـ عن جواب.
(١) - اخترت هذه الديباجة من نسخة شيخي سيدي محمد بن إبراهيم مد الله في عمره ونفع به. وفي أكثر النسخ المخطوطة "قال الشيخ علي بن عبد الغني الحصري رحمه الله". وفي نسخة آسفي "قال الشيخ الفقيه أبو الحسن.." وفي نسخة مراكش "قال أبو الحسن"، وفي نسخة الرسموكي "قال الإمام الأستاذ".
(٢) - في نسخة ابن الطفيل "خاتم" وفي باقي النسخ "خير النبيئين".
(٣) - في بعض النسخ "رسولا".
(٤) - سقط لفظ "تسليما" من نسخة ابن الطفيل.
(٥) - هذا البيت من قصيدة الخاقاني في التجويد وهو البيت الثالث قبل الأخير.


الصفحة التالية
Icon