وقد تمحور عمله في رباطه على إقامة شعائر الدين وقراءة القرآن وتعليمه والتفقه في أحكامه، "فلم تمر مدة حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم "المرابطين" أو أسماهم الناس بذلك للزومهم الرباط المذكور"(١).
وقد احتفظت المصادر التاريخية بنص الكتاب الذي بعث به الشيخ المقرئ الداعية المتصدر بالقيروان أبو عمران الفاسي(٢)، إلى تلميذه المدعو وكاك بن زلو اللمطي المقيم بوادي نفيس من الجنوب المغربي يطلب منه تزويد الأمير الصنهاجي العائد من رحلة الحج برجل يثق بدينه وورعه وكثرة علمه وسياسته، ليعلمهم القرآن وشرائع الإسلام(٣)، "وكان وكاك في داره التي بناها بالسوس، وسماها دار المرابطين"(٤)، فوقع اختياره على عبد الله بن ياسين الذي نهض بهذه المأمورية وقام بها خير قيام، قبل أن يترجم عمله إلى واقع حي في صورة دولة فتية وضع قواعدها على العلم والجهاد، وهكذا يمكننا أن نعتبر هذا الرباط أقوى مدرسة قرآنية انطلقت في افريقية والمغرب بمثل هذا الحشد الحاشد من الحفاظ، ولو أتيح لنا من الوثائق ما يكشف عن هذه الحقبة من تاريخ المنطقة لتغير الكثير من أحكام المتأخرين في هذه الحقبة من تاريخ المرابطين.
٣- في إقامة المساجد الجامعة والخاصة وتنصيب الأئمة والمقرئين بها
لا يخفى على أحد الدور القيادي الذي كان للمساجد في الإسلام، ولذلك كان بناء المسجد الجامع أول ما يأخذ باهتمام الأمراء كلما تيسر لهم فتح بلد من البلدان أو تمصير مصر جديد.

(١) - ذكريات مشاهير رجال المغرب: عبد الله بن ياسين لعبد الله كنون عدد ٣٧ ص ١٠-١١.
(٢) - سيأتي التعريف به في مشايخ القراءة بالقيروان وفاس.
(٣) - تاريخ ابن خلدون ٦/١٨٣.
(٤) - ترتيب المدارك ٨/٨١-٨٢.

فليدع الله لي بالتوبة، والعصمة من الحوبة، ومن الحق الواجب، أن يدعو للمنصور والحاجب فهما فجرا هذا النهر من بحري، واستخرجا هذا الدرر(١) من نحري(٢)، بصفحهما الجميل، وإحسانهما الجزيل، جزاهما الله حسن ثوابه، كما أجلساني لإقراء كتابه، وأخرجاني من ظلمة(٣) الشعراء، إلى نور القراء".
قلت ـ مستعينا بالله ـ: هذا آخر صدر كتابي الذي أعجز جميع اترابه، وميز صدق متابه: رأيت الورى في درس علم تزهدوا... فقلت: لعل النظم أحظى من النثر
إذا قلت أبياتا حسانا من الشعر فلا قلتها في وصف وصل ولا هجر
ولا مدح سلطان ولا ذم مسلم ولا وصف خل بالوفاء أو الغدر
ولكنني في ذم نفسي أقولها كما فرطت فيما تقدم من عمري
ولابد من نظمي قوافي تحتوي فوائد تغني القارئين عن المقري(٤)
ولم أرهم يدرون ورشا قراءة فكيف لهم أن يقرأوا لأبي عمرو
فألزمت نفسي أن أقول قصيدة أبث بها علمي وأجري إلى الأجر
فيا رب عذر للبخيل بماله وما للبخيل بالمسائل من عذر(٥)
فجئت بها فهرية حصرية على كل خاقانية قبلها تزري
على مائتي بيت تنيف تسعة وقد نظمت نظم الجمان على النحر
وما أعطيت بين القصائد حقها ولو كتبت بالمسك عظما عن الحبر(٦)
تنوب عن الكتب الضخام لقارئ وتسهل حفظا للمقيمين والسفر
وفيها من الذكر المطهر جملة فلا تقرها إلا وأنت على طهر
وأحسن كلام العرب أن كنت مقرئا(٧) وإلا فتخطي حين تقرأ أو تقري
(١) - هكذا "الدرر" بالجمع في نسخة ابن الطفيل، وفي غيرها "الدرة" بالإفراد.
(٢) - هذا لفظ نسخة ابن الطفيل وآسفي، وفي نسخة الشيخ أبو درار من قبيلة آيت داود بحاحة "فهما فجرا هذا النهر من صدري، واستخرجا هذه الدرة من بحري".
(٣) - سقط لفظ "ظلمة" من نسخة ابن الطفيل، وثبت في نسخة آسفي "ظلمة" وفي غيرها "ظلم" بالجمع.
(٤) - سقط هذا البيت في نسخة آسفي.
(٥) - في نسخة آسفي "وما لبخيل".
(٦) - في آسفي: "على الحبر".
(٧) - في آسفي "قارئا".


الصفحة التالية
Icon