وقد كان لنافع في ذلك كله اختيارات سنأتي عليها – بحول الله – آخر هذا البحث عند الحديث عن أصول قراءته من رواية ورش التي كسرنا هذا البحث على دراستها وتاريخها عند المغاربة. ولذا فسنرجئ الكلام على ذلك إلى موضعه هناك.
وهكذا يتبين لنا من خلال ما استعرضنا من نبوغه وريادته، أو إسهامه ومشاركته في هذه العلوم السبعة، مقدار تضلعه في المعارف المتصلة بفنه، مما يشهد أعدل شهادة على تبريزه وإمامته، وتفرده في بلده بالمستوى الرفيع الذي لم يتقدمه إلى مثله أحد، ولا لحقه فيه في فنه.
ولقد عزز هذا المستوى بمشاركة أخرى معتبرة في رواية الحديث والآثار، والعناية بالروايات والأخبار التاريخية والأدبية، كما تشهد بذلك النقول الكثيرة عنه في المتفرقات التي يمكن الوقوف عليها هنا وهناك.
ـ من حديثه الأدبي"
فمن حديثه المتصل بتاريخ الأدب مما يدل على إلمامه بالرواية الأدبية واحتفائه بأخبار الرجال:
ما حدث به عنه الأصمعي في أخبار الشاعر العربي المشهور: كثير بن عبد الرحمن، والمفسر التابعي المشهور عكرمة مولى ابن عباس، قال ابن قتيبة:
"حدثني الرياشي(١)عن الأصمعي عن نافع المدني قال: "مات كثير الشاعر، وعكرمة في يوم واحد"(٢).
وقد أكد ابن حبان صحة هذه الرواية، فقال في ترجمة عكرمة: "مات سنة سبع ومائة هو وكثير عزة(٣)في يوم واحد، فأخرجت جنازتهما، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس"(٤).
- ومنه ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في مناقب عمر بن عبد العزيز، قال:

(١) - هو أبو الفضل عباس بن الفضل الرياشي، من كبار أهل اللغة والرواية الأدبية أخذ عن الأصمعي، وكان يحفظ كتبه وكتب أبي زيد الأنصاري كلها، توفي سنة ٢٥٧ هـ - نزهة الألباء للأنباري ١٩٩ ترجمة ٦٦.
(٢) - المعارف ٢٠١.
(٣) - اشتهر بإضافته إليها لصرفه جملة أشعاره في التشبيب والتغزل بها، وكان منافسا لجميل بثينة في ذلك.
(٤) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان ٨٢ ترجمة ٥٩٣.

٢٣- دليل الحيران على مورد الظمآن في فني الرسم والضبط للشيخ إبراهيم بن أحمد المارغني التونسي.
طبع هذا الشرح أكثر من مرة(١) ومعه كتابه "تنبيه الخلان على الإعلان" الآنف الذكر، ومجموعها في ٣٥٨ صفحة، وأوله: "الحمد لله الذي رسم آيات القرءان في صحف الصدور، وأثبتها في ألسنة قارئيها على نحو ما في المصاحف مسطور، وحفظها ـ جل جلاله ـ من كيد الملحدين ذوي العناد والفجور.
أما بعد فيقول العبد الفقير إلى ربه الغني المغني إبراهيم بن أحمد بن سليمان المارغني: إن من أجل علوم القرآن، التي هي أجمل ما به تحلى الإنسان، علم رسمه على نحو ما رسمه به الصحابة الأعيان، في مصاحف سيدنا عثمان، وعلم ضبطه الذي به يزول اللبس عن حروف القرءان، وتتبين به غاية البيان... ثم ذكر الأمهات من الكتب المعتمدة في هذين العلمين، وأنها صارت أصولا يرجع في ذلك إليها، وكل من ألف في الرسم والضبط = يعتمد عليها، ثم قال: "ومن التآليف المختصرة من تلك الأصول الحسان، النظم البديع المسمى "بمورد الظمآن" المشتمل مع "الذيل" المتصل به على فني الرسم والضبط باعتبار قراءة نافع فقط، لمؤلفه الشيخ الإمام العلم الهمام... ثم ذكر أن الأئمة شرحوه، فمنهم من أطال، ومنهم من اختصر، وأنه اختصر هذا الشرح من شرح الرسم للعلامة المحقق سيدي عبد الواحد بن عاشر، وشرح الضبط لسيدي محمد التنسي العالم الماهر، تابعا لهما فيما اتضح من الترتيب والتعبير، غير جالب من كلام غيرهما إلا اليسير، معرضا عما أطالا به من كثرة النقول والأبحاث والتعاليل، مقتصرا على ما لابد منه من الإعراب خيفة التطويل، ملتزما فيما ذكر فيه الناظم الخلاف أو التخيير بيان ما جرى به العمل في قطرنا التونسي الشهير، قاصدا بذلك خدمة القرءان وأهله الكرام، لإحياء ما اندرس في زماننا من علومه العظام.
(١) - طبع بتونس بالمطبعة التونسية في جمادى الثانية ١٣٢٥-١٣٢٦هـ وبالقاهرة بدار القرءان سنة ١٩٧٤.


الصفحة التالية
Icon