والواضح أن هذا اللون من التأديب لم يكن يستفيد منه أبناء الأمراء وحدهم، وإنما كان يشمل من معهم من أبناء الحاشية، بدليل قوله "وإلى من معه من صبيانه"، وربما كان ينتفع به معهم غيرهم من الجيران عموما، بل اننا نقرأ في عهد الحكم المذكور أخبارا طريفة عن هذا الشأن تصور مبلغ العناية بتعليم القرآن في هذه المحاضر بوجه عام، فقد عد ابن عذاري "من مناقب الحكم المستنصر اتخاذه المعلمين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن حول المسجد الجامع وبكل ربض من أرباض قرطبة، وأجرى عليهم المرتبات، وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم... وعدد هذه المكاتب سبعة وعشرون مكتبا، منها حوالي المسجد الجامع ثلاثة، وباقيها في كل ربض من أرباض المدينة، وفي ذلك يقول ابن شخيص:

وساحة المسجد الأعلى مكللة مكاتبا لليتامى في نواحيها
لو مكنت سور القرآن من كلم نادتك يا خير تاليها وراعيها(١)
وزيادة في إكرام المؤدبين " "حبس الحكم حوانيت السراجين بقرطبة على المعلمين لأولاد الضعفاء"(٢).
ذلك جانب من هذه الرعاية الرسمية لهذا اللون من التعليم الديني في الأندلس يلتقي مع ما قدمنا عن مثله في افريقية والمغرب، على ما ساقه ابن خلدون من خصائص سكانهما ويتجلى من خلالها تعلقهم المتين بالقرآن الكريم، وإلى هذه الخاصية يشير في تاريخه إذ يقول:
(١) - البيان المغرب ٢/٢٤٠/٢٤١.
(٢) - المصدر نفسه ٢/٢٤٩.

هذا هو النص الذي تأتى لي الحصول عليه من مقابلتي بين عدد من نسخ القصيدة مقابلة كلية أو جزئية، ولم تتيسر لي حاليا المقابلة الكاملة على النسخة التي اعتمدها ابن الطفيل في شرحه عليها، وهي أحق النسخ في نظري بالاعتماد، نظرا لقرب زمان الشارح من زمن الناظم(١)، ولاقتران أبياتها ببيان المعاني مما يسهل معه حل بعض الإشكالات كثيرا ما يضطر المحقق فيها إلى الترجيح بناء على المقابلة بين النسخ والاجتهاد الشخصي، هذا بالإضافة إلى قدم تاريخ نسخها أيضا كما قدمنا، وهذه الأمور كلها مجتمعة تجعل النص المثبت فيها أجدر النصوص بالاعتماد، ومن شأن المقابلة عليه أن تعين بعض الأبيات التي جرت إضافتها إليها من لدن الشراح أو النساخ، ولعل الله ـ عز وجل ـ ييسر الفرصة للقيام بهذا العمل المفيد(٢).
الفصل الرابع:
أهمية القصيدة وانتشارها وعوامل شهرتها وما قام حولها من نشاط علمي، وأثرها في دعم المدرسة القيروانية.
(١) - أعني به أبا الحسن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الطفيل العبدري الاشبيلي صاحب المصنفات العديدة في القراءات وقد تقدم في أصحاب أبي داود، توفي سنة ٥٤٣ فبين وفاته ووفاة الحصري ٥٥ سنة، أي أنه ربما ولد في حياته.
(٢) - قام بهذا العمل قبل مثول هذا البحث للطبع صديقنا الدكتور توفيق العبقري من مراكش حفظه الله وأهدى إلى مؤخرا نسخة من عمله.


الصفحة التالية
Icon