وقول ابن العربي "وعلقت القلوب اليوم بالحروف" إشارة قيمة إلى ما ذكرنا لهم من نبوغ في حفظ القرآن والقيام عليه قراءة ورسما، والحرص البليغ على جمع رواياته والرحلة في طلبها إلى أقصى المعمور، حتى انه لا يعرف أهل منطقة في ديار الإسلام كان لهم مثل هذا الشغف بالضرب في أقطار الأرض لهذا الغرض، وهذا الإمام أبو القاسم يوسف بن علي ابن جبارة الهذلي البسكرى (ت ٤٦٥) يقول عنه الحافظ ابن الجزري: "وطاف البلاد في طلب القراءات، فلا أعلم أحدا في هذه الأمة رحل في القراءات رحلته، ولا لقي من لقي من الشيوخ"(١).
لقد كان علم القرآن وقراءته إذن أهم خصوصية للمغاربة، وقد قدمنا قول بعض الباحثين من أهل المشرق: "انه الميدان الوحيد الذي سيطر عليه المغاربة سيطرة تامة"(٢).
وسوف نرى من خلال هذا البحث أن هذه الخاصية ليست دعوى مرسلة ليس لها ما يثبتها من الواقع التاريخي، فما تزال تنطق بها أخبار رحلاتهم وسجلاتهم المدونة ومؤلفاتهم الجامعة، ولولا ذلك ما تعرفوا على قراءات الأئمة من قراء الأمصار، ولا استطاعوا أن يهتدوا إلى قراءة كقراءة نافع يرحل الرواد منهم إليها في مصرها وبدونها عن صاحبها، ويضبطون أهم رواياتها من بعده على أكابر أصحابه، ثم يعتمدون منها روايتهم المفضلة، ويتخذونها قراءة جامعة يتلقون على أساسها كتاب الله.
ولقد ظل الأسلوب المتبع في التعليم يسير على هذا السلم الذي رسمه أبو العباس أحمد بن خليل السكوني الاشبيلي (ت ٥٨١)(٣). في وصيته الشعرية إذ يقول:

"ان العلوم لجمة وأجلها علم القرآن وسنة المختار
(١) - غاية النهاية ٣٩٧ - ٣٩٨ ترجمة ٣٩٢٩. وسيأتي التعريف بالهذلي بين أئمة القيروان بعون الله.
(٢) - كتب برامج العلماء في الأندلس للدكتور عبد العزيز الأهواني مجلة معهد المخطوطات مجلد ١/١١٨.
(٣) - سيأتي في أصحاب الامام شريح الرعيني الاسبيلي وفي امتداد مدرسته في مراكش في عهد الوحدة.

ثم أسندها من طريق القاضي أبي بكر أحمد بن محمد بن جزي بسنده إلى الخطيب أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن القيسي القيرواني عن ناظمها"(١).
وأسندها من المشارقة من أهم طرقها الأندلسية الحافظ ابن الجزري فقال في النشر:
"أخبرنا بها شيخنا أبو المعالي محمد بن أحمد بن اللبان سماعا لبعضها وتلاوة لجميع القرآن، قال: أخبرنا أبو حيان تلاوة، أخبرنا أبو علي بن أبي الأحوص سماعا، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن علي بن الفحام، أخبرنا أبو علي بن زلال الضرير، أخبرنا ابن هذيل، أخبرنا أبو محمد السرقسطي".
وقال أبو حيان: "قرات على أبي الحسين بن اليسر، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد، أخبرنا أبو جعفر بن حكم وأبو خالد بن رفاعة، قالا: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن علي بن الباذش، أخبرنا أبو القاسم خلف بن صواب، قالا أعني ابن صواب والسرقسطي: أخبرنا الحصري".
قال ابن أبي الأحوص: وأخبرنا به مشافهة الحاكم أبو عبد الله محمد بن الزبير القضاعي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن النعمة، أخبرنا ابن صواب، أخبرنا الحصري".
"قال أبو حيان: وعرضتها عن ظهر قلب على معلمي عبد الحق بن علي الوادي آشي، وكتب إلي الشريف أبو جعفر أحمد بن يوسف الشروطي ـ أي صاحب الاحكام ـ عن أبي محمد بن بقي، عن الحصري"(٢).
(١) - المصدر نفسه.
(٢) - النشر في القراءات العشر ١/٩٦.


الصفحة التالية
Icon