وكان التابعي الجليل حنش بن عبد الله الصنعاني إذا أراد الصلاة من الليل "أوقد المصباح وقرب المصحف".. وإذا تعايا في آية نظر في المصحف"(١).
وقيل عن إسماعيل بن عبيد الأنصاري الذي غزا صقلية مع من غزاها سنة ١٠٧هـ انه "غرق في البحر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو متقلد المصحف"(٢).
ويدل على استعمال المعلمين والمتعلمين لمثل هذه المصاحف وشيوع ذلك بين العامة: ما جاء في رسالة "آداب المعلمين" لابن سحنون من تعليمات في شأن ما ينبغي أن يأخذ به المتعلم" أن لا يمس المصحف إلا على وضوء"(٣)وتقريره أن "قراءة الصبي القرآن في المصحف مع معرفة حروفه وإقامة إعرابه توجب "الختمة" للمعلم وان لم يستظهر الصبي القرآن"(٤).
والقول في ما يخص البلاد الأندلسية كالقول في افريقية والمغرب، فمن المفروض أنها عرفت العدد الوفير من مثل هذه المصاحف العامة والخاصة على أيدي الولاة والفاتحين ثم على أيدي الأمواج البشرية التي هاجرت إليها من مصر والشام وافريقية ـ كما سيأتي ـ، وخصوصا حين قيام امارة بني أمية بها قبل النصف الأول من المائة الثانية للهجرة.
وتدل بعض الإشارات الباقية على تعرفها بصورة مبكرة على بعض المصاحف المدنية، وربما كانت عمدتها منذ أيام الفتح قبل أن تتغلب عليها العناصر الشامية.
وقد أفادنا نص عند الإمام أبي عمرو الداني في "كتاب المحكم في نقط المصاحف" عن تعرف المنطقة على النظام المدني المتبع في نقط المصاحف وشكلها في وقت مبكر بعد الفتح، وفي ذلك يقول:

(١) - رياض النفوس للمالكي ١/١٢١ ومعالم الإيمان ١/١٨٧.
(٢) - رياض النفوس ١/١٠٦-١٠٧ ترجمة ٣٢.
(٣) - آداب المعلمين ١١٣.
(٤) - آداب المعلمين ١٠٨. والختمة أراد بها المكافأة المادية المتعارف عليها، وتسمى أيضا "الحذقة".

ولا أعلم لهذا الشرح وجودا الآن، ولا رايت من نقل عنه، إلا ان قول ابن عبد الملك الأخير يدل على أنه وقف عليه في زمنه.
٤- شرح الحصرية لأبي عمرو مرجى بن يونس بن سليمان بن عمر بن يحيى الغافقي المرجيقي نسبة إلى "مرجيق"
بغرب الأندلس، ترجم له ابن الأبار وقال: "كان من أهل المعرفة بالقراءات والعربية، وله شرح في قصيدة الحصري في القراءات أخذ عنه وسمع منه، وقد أقرأ بسبتة وطنجة، وبها كان ساكنا"(١).
وقال أبو جعفر بن الزبير: "أقرا القرآن والعربية والأدب، وكان ممن أخذ عن ابن خير وابن عياض الشلبي، وعمر وقرأ عليه الآباء، والأبناء، أخذ عنه أبو الحسن الغافقي(٢) وأبو الخطاب بن خيل، وكان فاضلا من أهل الخير، وفيه دعابة مستحسنة، شرح قصيدة الحصري في قراءة نافع، ومات في حدود ٦٠٠(٣).
أكثر من النقل عنه المنتوري في شرحه على ابن بري، ومن نقوله عنه قوله مثلا في باب الإدغام:
"وقال المرجيقي في شرح الحصرية: وعلة قلب النون الساكنة والتنوين ميما إذا لقيتهما باء، أن الميم مواخية للباء لأنها من مخرجها، مشاركة لها في الجهر، والميم أيضا مواخية للنون في الغنة وفي الجهر، فلما وقعت النون قبل الباء ولم يمكن إدغامها في الباء لبعد ما بين مخرجيهما، وبعد إظهارها لما بين النون واخت الباء من الشبه، وهي الميم، أبدلت منها حرفا مواخيا لها في الغنة، ومواخيا للباء في المخرج وهو الميم، ألا ترى أنهم لم يدغموا الميم في الباء مع قرب المخرجين والمشاركة في الجهر، نحو قول الله تعالى "وهم بربهم"(٤).
ونقل عنه أبو الفضل بن المجراد السلوي وابن القاضي في شرحيهما على الدرر في مواضع منها قول أبي الفضل ـ أعني ابن المجراد ـ عند قول ابن بري:
والخلف في المد لما تغيرا ولسكون الوقف والمد أرى
(١) - التكملة ٢/٧٢٥ ترجمة ١٨٣٧.
(٢) - تقدم ذكره في مشيخة الإقراء بسبتة.
(٣) - نقله السيوطي في بغية الوعاة ٢/٢٨٤ ترجمة ١٩٨٨.
(٤) - شرح المنتوري لوحة ١١٢ـ٢١٣.


الصفحة التالية
Icon