ولم يتحدث أبو عبيد عما تم بعد ذلك أي عن الطور الأخير الذي وقع فيه الإجماع على اختيار قراءات السبعة وحدهم، وذلك لأنه لم يدرك هذا الطور وان كان ربما عاش بدايته، ولمح اليه من خلال اشارته إلى من اجتمع الناس على قراءته من الأئمة في الأمصار الخمسة المشهورة.
ولقد تولى الإمام السخاوي اتمام هذا التصنيف تأسيسا على ما ذكره أبو عبيد في الجرد التاريخي السالف، فأشار إلى الطور الثالث ـ أعني طور الاقتصار على قراءات السبعة ـ مبينا المقومات والأسس التي انبنى عليها اختيار قراءات أولئك السبعة خاصة فقال:
"فلما كان العصر الرابع سنة ثلاثمائة وما قاربها، كان أبو بكر بن مجاهد(١)ـ رحمه الله ـ (ت ٣٢٤) قد انتهت إليه الرياسة في علم القراءة، وتقدم في ذلك على أهل ذلك العصر، اختار من القراءات ما وافق خط المصحف، ومن القراء بها من اشتهرت عدالته، وفاقت معرفته، وتقدم أهل زمانه في الدين والأمانة، والمعرفة والصيانة، واختاره أهل عصره في هذا الشأن، وأطبقوا على قراءته وقصد من سائر الأمصار، وطالت ممارسته للقراءة والإقراء، وخص في ذلك بطول البقاء، ورأى أن يكونوا سبعة تأسيا بعدد المصاحف الأئمة، وبقول النبي ـ ﷺ ـ: "ان هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف من سبعة أبواب" فاختار هؤلاء القراء السبعة أئمة الأمصار، فكان أبو بكر ـ رحمه الله ـ أول من اقتصر على هؤلاء السبعة، وصنف كتابه في قراءتهم، واتبعه الناس على ذلك، ولم يسبقه أحد إلى تصنيف قراءة هؤلاء السبعة"(٢).

(١) - هو أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد العطشي البغدادي صاحب كتاب "السبعة في القراءات" وغيره، وأول من سبع السبعة. ترجمته في معرفة القراء الكبار ١/٢١٦- طبعة ٨ وغاية النهاية ١/١٣٩-١٤٢ ترجمة ٦٦٣.
(٢) - جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي ٢/٤٣٢.

شهدت المناطق المغربية في افريقية والأندلس والجهات التابعة لها خلال المائتي عام التي تمثل من تاريخ القراءات بهذه الجهات طور التأصيل والنضج، والتي تمتد ما بين سنتي (٣٥٠ـ٥٥٠) هـ تلاقحا واسع المدي بين مختلف المدارس والاتجاهات الفنية في القراءة والأداء كما بسطنا ذلك وتتبعنا امتداداته في الأندلس والمغرب في الفصول المتقدمة، حيث رأينا كيف انطلق من القيروان التيار الأصولي في الأداء من مدارس الأقطاب الستة أبي عبد الله بن سفيان وأبي محمد مكي بن أبي طالب وأبي العباس المهدوي وأبي القاسم الهذلي وأبي علي بن بليمة وأبي القاسم بن الفحام، كما رأينا كيف انطلق في مقابله التيار الأصولي الأندلسي المتنوع على أيدي الأقطاب الستة أيضا، وهم أبو عمر الطلمنكي وأبو عمرو الداني وأبو الطاهر العمراني وأبو القاسم الخزرجي وأبو القاسم بن عبد الوهاب وأبو عبد الله بن شريح.
ورأينا أيضا كيف تلاقى وتساوق هذا الرصيد الضخم من الروايات مع الجديد الوافد الذي ظل يتدفق على هذه الجهات عن طريق الرحلات المشرقية، وظل يزودها بالمزيد من المعرفة والرسوخ في هذه العلوم.
ولقد أدى تنامي هذا السيل العارم من الروايات والطرق عن القراء السبعة وغيرهم، وتنوع المدارس في الجهات الافريقية والأندلسية والمناطق التابعة لها ثقافيا، إلى غنى واسع في الروايات وطرق الأداء تجاوز بكثير حد الكفاية، وأصبح ينذر بالخطر، ويتطلب الانبراء لضبطه ومحاولة التحكم في تياره الجارف.
ولقد أوحت محاولة التحكم فيه إلى طائفة من الأئمة الرواة بوجوب تحرير أسانيدهم وفهرسة رواياتهم ومروياتهم، وتسمية من لقوه من مشايخهم، حرصا منهم على الضبط واحتياطا للقرآن ورواياته وحروفه.
ومن أمثلة المصنفات التي عكف الأئمة على تحريرها وتحرير طرقهم فيها المصنفات التالية:


الصفحة التالية
Icon