يبتدئ هذا الطور من أول الفتح الإسلامي لهذه الجهات، إذ كان القارئ من الصحابة وغيرهم من التابعين يقرأ ويقرئ بالحرف الذي تلقى به القرآن من شيخه، ولا يعنيه بعد ذلك أن يكون موافقا لما عند غيره أو مخالفا، وعلى هذا الأساس كانت قراءات السلف تختلف فيما بينها في كثير من حروف القراءة وكيفيات الأداء، لكن القراء لهذا العهد لم يكونوا يهتمون كثيرا بالوقوف على مظاهر هذا الاختلاف، لما جاء من النهي عن المراء في القرآن، ولمعرفتهم بنزول القرآن الكريم على الحروف السبعة، والاذن لكل قارئ أن يقرأ كما علم(١)، وينبني على هذا التصور التسليم بأن الذين أسهموا في نشر القرآن وتعليمه بافريقية والمغرب من الصحابة ومن أخذ عنهم من التابعين، لم تكن تجمعهم قراءة واحدة معينة، وانما كانوا يقرأون على أنحاء كثيرة وأنماط أدائية متعددة بتعدد مصادر الأخذ والتلقي، الأمر الذي يتأتى معه القول بتعرف هذه المناطق على معظم ما هو متداول لهذا العهد من حروف القراءة، وما رسم من ذلك في مصاحف الصحابة، كما يمكن القول أيضا باطمئنان بتعرفها خاصة على حروف أهل المدينة وأهل الشام، وأن هذه الحروف سرعان ما غدت متداولة في القراءة عند جمهور القراء والمتعلمين لعدة أسباب:
أولها فيما يخص حروف أهل المدينة، أن عامة الصحابة القراء الذين كانوا يقومون على الإقراء اما مدنيون أو قرأوا بالمدينة.
ثانيها فيما يخص حروف أهل الشام، أن فتح هذه المناطق كان على أيدي الدولة الأموية بالشام، فكانت عامة المؤثرات في القراءة والشؤون العامة شامية، بما في ذلك بعثات التوجيه والإقراء التي تصاحب الجند.

(١) - وفي حديث علي "أن رسول الله ﷺ يأمركم أن تقرأوا القرآن كما علمتم" –السبعة ٤٧.

وهذا أبو القاسم بن عبد الوهاب قد أسند في كتاب واحد من قراءته على أبي علي الأهوازي شيخ قراء الشام اثنتين وسبعين رواية عن اثنين وسبعين راويا عن القراء العشرة من مائتي طريق وسبعة وثمانين طريقا(١). وتقدم أن أبا القاسم الهذلي ضمن كتابه "الكامل" خمسين قراءة عن الأئمة، وألفا وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقا"(٢).
ثم هذا كتاب الإقناع لأبي جعفر بن الباذش على صغر حجمه قد تضمن القراءة ـ كما تقدم ـ من ثلاثمائة طريق.
فإذا اعتبرنا مع هذه الطرق والروايات ما تضمنه الهادي لابن سفيان و"الهداية" للمهدوي والتبصرة لمكي وتلخيص العبارات لابن بليمة، والعنوان "لأبي الطاهر العمراني، والروضة للطلمنكي والتجريد لابن الفحام، والقاصد لأبي القاسم الأستاذ والمفتاح لأبي القاسم بن عبد الوهاب وسوى هذه الكتب مما قرأ به المتأخرون ممن رحل إلى المشرق من أصحاب الأئمة كأبي محمد بن سهل وابن المفرج وابن البياز ويحيى بن الخلوف الغرناطي وأبي الربيع بن سليمان الطنجي واليسع بن حزم الغافقي، إذ ضممنا هذا إلى بعضه أدركنا إلى أي حد بلغ الثراء بل الترف في المدرسة المغربية في حقل الرواية عن السبعة أو العشرة، الأمر الذي أمسى يشكل عند القراء المختصين ثقافة خاصة وعلما قائما بذاته أحوج إلى التأليف فيه، كما احوج إلى الاستعانة عليه برواية فهارس الأئمة التي اهتموا فيها بضبط مشايخهم ورواياتهم عنهم وأسانيدهم فيها طلبا للضبط واحتياطا لوجوه التحمل من قراءة وسماع وعرض وإجازة ومناولة وغير ذلك.
إلا أن هذه الثقافة الزائدة قد أصبحت من جهة ثانية تشكل عقبة كؤودا في وجوه العاملين على ضبط التلاوة العامة على نمط واحد وهيئة أدائية ثابتة، لاسيما في القراءة "الرسمية" المعتمدة أعني قراءة نافع من رواية ورش وطريق أبي يعقوب الأزرق التي عليها الناس في الغرب الإسلامي تلاوة وتعليما وتعبدا.
(١) - فهرسة ابن خير ٣٧ـ٣٨.
(٢) - ينظر النشر لابن الجزري ١/٣٥.


الصفحة التالية
Icon